لم يعد فهم الواقع العربي ممكنا أمام أي عاقل، فأسباب القوة المتعددة والمتنوعة المتوفرة أصبحت وكأنها حواجز على الطريق ، وحتى النصر الذي صنعته – لكل الأمة – قلة قليلة مؤمنة ، يريد له عرب التّماس أن يكون نصرا مهزوما في كل الأمة ، فهل نحن في الهزيع الأول من ليل الذل والهوان، أم مع بداية صبح جديد ؟!؟ انحاز العرب إلى الضعف والتشرذم منذ جنوح مصر إلى الاستكانة والعيش في منفاها الاختياري بمنتجع ديفيد الأمريكي قبل ثلاثة عقود مضت ، و قد أسست تلك الحقبة لميلاد مصطلح الشرق الأوسط الكبير ، الذي أراد له أصحابه أن يعيد تشكيل المنطقة العربية طبقا لرؤية صاحب المشروع النووي الصهيوني شمعون بيريز ، غير أن " التوترات " السياسية التي جعلت علاقات دول المنطقة في شد ومد ، تكون أسقطت ذلك المصطلح الذي حاولت إدارة البيت الأبيض الأمريكي المزهوة باجتياحها لكل من أفغانستان والعراق أن تعيد تسميته، واختارت عرّابة الخارجية الأمريكية كوندا ليزارايس ، أن تحمله للناس تحت مسمى الشرق الأوسط الجديد ، الذي قالت - في حرب الصهاينة على لبنان عام ألفين وستة - إنه يتشكل ! إلا أن رجال المقاومة المؤمنين الصادقين المخلصين أجهضوها و أسقطوا لها الجنين ، عندما حوّلوا حجم الدمار الكبير الذي ألحقته الآلة العسكرية الصهيونية الأمريكية بلبنان ، إلى هزيمة تعتبر الأولى التي تصيب الكيان اللقيط و تبشر بقرب زواله ، و لم يجد المسيح الدجال - الذي يقول إن السماء بعثته لإزهاق أرواح البشرية وهدر مقدراتها ومواردها ومكتسباتها - إلا أن يزور شيوخ الخليج ، ليعلن – رمزيا وهو يراقصهم على وقع صليل السيوف – أنه أمام شرق أوسط يتقاتل ويُسفك الدماء ، و ما كاد يرحل حتى ابتدأ ذلك التصور بمنهجية جديدة في قتل الفلسطينيين أمام أنظار العالم ، وهو الذي وعدهم بدولة قابلة للحياة قبل أن يحزم أمتعته راحلا عن إدارة أمريكا خلال أقل من عام . أعطى تقرير فينوغراد الصهيوني المنشور مؤخرا ، حقيقتين ثابتتين لا ينبغي لإطراف الصراع أن يغضوا الطرف عنهما أبدا : أن قول الحقيقة – و لو مُقتَطعة – للشعب المكوّن من الشتات ، هي أحد أسباب انتصار الصهاينة في كل حروبهم السابقة على العرب ، أن الضعف المزمن لدى أصحاب القرار في العواصم العربية ليس قدرا محتوما ، فقد حوّلت فئة قليلة مؤمنة ضعفها العددي والتكنولوجي إلى قوة دفع ضاربة أطاحت بجبروت القوة الظالمة التدميرية ، و أعادت النظر في التوازنات العسكرية التي ستحكم المنطقة في الفترة القادمة ، لكن العرب الذين يأبوْن الخروج من دائرة التّماس ، لم يستثمروا - على ما يبدو - لحظة الانتصار النادرة التي حققها لهم رجال المقاومة اللبنانيون الأشاوس ، بل يتعجب المتابع للأحداث، كيف أن استيراد "خردة" السلاح قد ارتفعت فاتورته لدى عرب هذا الزمان إلى عشرات الملايير من الدولارات ، و كأن النظام العربي يُشفق – من جهة – على مصانع الأسلحة الأمريكية التي دفعتها حرب لبنان إلى حافة الكساد ، و قد أثبتت عدم نجاعتها في الحروب الحديثة أمام الإصرار الصادق لإعادة الحق لأصحابه ، و من جهة أخرى ، يعمى هذا النظام أن يوظف تلك الأموال المهدورة – في تكديس سلاح لم يعد ينفع – ضمن مسارات التنمية الوطنية و القومية و في سياقاتها الحقيقية ، و من ثَم فإن السياسة الرسمية العربية ما زالت تلعب بالأمن العربي العام ، و قد وضعته في مهب الريح مرة أخرى ، يتم ذلك كله بمباركة جل الأحزاب العاملة التي كثر – فقط – تعدادها و تنوعت تسمياتها و أثبتت الوقائع أنها صورية و موضوعة للزينة و الديكور، و لم تكن يوما رجع الصدى الحقيقي للأمة ، بل حولت معها المؤسسات القائمة إلى مجرد أطلال سياسية ترغب الأغلبية الغالبة في إزالتها ضمن ما تريد إزالته ، وإلا ما كانت لتضيّع حتى الآن فرصة تاريخية لم تأت للعرب منذ عقود من الزمن . إذا كانت أمريكا لا تلام على الدفاع عن مصالحها بكل الوسائل ، حتى و لو تسللت إلى البيت الفلسطيني وأنهكته بتقسيمه إلى قطعتين متنافرتين متحاربتين ، لصالح الشتات الصهيوني المُتجمِّع فوق حاملة الطائرات الجاثمة على قلب العرب ، أو اندست في الشأن اللبناني وضخّمت فيه الصور الباهتة التي أعاد الإعلام وحده تكبيرها ، و لم تعد لديها مصداقية – طائفيا و لا دينيا و لا سياسيا و لا قوميا – في الشارع اللبناني ، حتى تُفرمل مسيرة اللبنانيين التحررية نحو الاتجاه الصحيح ، فإنه ليس من حق العرب أن يبقوا أسرى سياسة أمريكية أكدت لهم – على مدى أكثر من عقد انفردت فيه واشنطن بالقضية الفلسطينية – أنها مفلسة و كاذبة و مخادعة ، وقد دلّلت المقاومة العربية الإسلامية في جنوب لبنان و خلال ثلاثة و ثلاثين يوما ، على عجز هذا التوجه عسكريا كذلك ، و من الواجب على هؤلاء المؤتمَنين على سلامة الأمة و تطورها و تبوؤها مكانتها الطبيعية ، أن يسارعوا إلى بناء إستراتيجية للأمن العربي ، تبدأ بالتأسيس للأمن الوطني الذي يرتكز على عدة أسس منها : *الإسراع في توريط الإنسان العربي بإشراك حقيقي لكل مواطني البلد الواحد ، في كل القرارات التي يجري اتخاذها لصالح هذه الدولة أو تلك ، بعيدا عن احتكار الرأي والتفكير والإنجاز من طرف صاحب الزعامة أو خادم الأمة الأوحديْن . *تأمين السلاح الغذائي ، بإعادة تثوير الأرض الغنية المترامية الأطراف ، و التي أصبحت تشكو البوار و التصحر بالرمل أو الإسمنت أو الإفساد الصناعي . *النأي بمنظومة التربية و التعليم عن نزوة المزاجيين من السياسيين الهواة أو الفاشلين في تجربة تحزبهم ، و جعلها في مكانها الطبيعي المقدس الذي يحمي الأمة كلما حاصرها الظلام أو التخلف . *إبعاد المؤسسة العسكرية عن اللعب السياسي ، و تخليصها من العبث " السياسوي "، و إخضاعها إلى إستراتجية جديدة فعالة ، لا تعجز أمام المفاجأة – لحماية البلاد و الأوطان – ولا ترتبك أمام التغيير الطارئ لسيناريوهات العدو الدائم أو المستجد . إن ذلك – وإن كان يتطلب من الدول ، نية صادقة و إرادة قوية و توظيفا جيدا للظرف الدولي و المالي – فإنه يستوجب على الشعوب - المستقيلة اليوم عن مسؤولية اتخاذ القرار و إدارة الشأن العام - أن تنهض و تفك الحصار المضروب حول معظمها من ديكتاتورية محلية و تحرش خارجي ، و لكن الخوف كل الخوف أن يطول نومها و غيابها ، فتكتب بذلك شهادة وفاتها ، و تصبح - بإسلامها - في الغابرين مع العرب البائدة. [email protected]