في هذا الزمن الأخير انتشرت ظاهرة غريبة جدا يحبل بها الخطاب الديني ويذيعها الإعلام بكل وسائطه المرئية والمسموعة والمكتوبة، يقوم فيه المسلمون أو أغلبهم على الأقل بدعوة الناس إلى المعروف ومحاربة المنكر والكفر بكل الوسائل والإمكانات، بل والحرص على خلاص الآخرين أكثر ربما من الحرص على خلاص الذات أمام امتحان الموت والقبر واليوم الآخر. أجل، في نبرة أصوات هؤلاء ما يشي بهذا الموقف والمعنى، وفي متون هذا الخطاب ورسائل الدعاة والمشايخ ما يحيل إلى هذه المقاصد، إذ يمعن هؤلاء المسلمون في إبداء تخوفهم من مصير الفاسدين والمنحرفين عن طريق الجادة ومن العصاة والفجرة والفاسقين، إلى درجة يبدو معها وكأن هؤلاء تعاقدوا مع الله تعالى وضمنوا مكان الحظوة لديه وزكوا أنفسهم عليه ولا حول ولا قوة إلاّ بالله. أكثر من ذلك يلوك هؤلاء أو بعضهم بألسنتهم خطابا يشتمون فيه المنحرفين العصاة دون شفقة ويرمونهم بأشنع الأوصاف ويختمون ذلك بلازمة حاقدة هي :" ...جهنم وبئس القرار". هكذا هو هذا الخطاب الشائع إذ يمدح الكراهية وينفي المحبة ويزرع الأحقاد ويكشف عن حراسة غريبة لنوايا الناس وتقييم أخلاقهم بالأحكام العامة والجزافية على سلوكهم ومظهرهم ولباسهم وما إلى ذلك. هذا الخطاب البائس يغذي الممارسات الكريهة والتظرف والغلو في المعاملات وفي الموقف تجاه الآخر من ملة الإسلام والملل الأخرى. ينصب هؤلاء أنفسهم قضاة يمنحون صكوك الغفران والاستقامة لمن شاءوا ويكفرون من شاءوا، وامتد الأمر إلى مختلف الطوائف والمذاهب، فلم يسلم إلى جانب العصاة والفجّار والمتغربين بتعبيرهم الشيعة والإباظية والحوثيون والعلويون والدروز وغيرهم.. تغيّب الحقيقة التي لا مفر منها في الدين والحياة، وهي أن الخلاص فردي في مواجهة ربّ الإنسان والجمال والأجل، وأن القلوب مولاها مقلّبها ومثبتها والعارف بما في الصدور وما تبدي الأنفس وما تخفي.. عوض أن تقضي وقتك في الخوف على مصير الآخرين ألزم نفسك بالخوف على مصيرك كما قال المفكر علي شريعتي لأن التكليف مناطه البلوغ ولن يقوم حسابك إلاّ بكتابك لا بكتاب الآخرين.. هذه هي الحقيقة التي على المسلمين اليوم أن يصرفوا إليها النظر والإرادة وما عدا ذلك مجرد عبث وشطط.. أما قبل: "إنك لن تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء" قرآن كريم