قلت أن كل مواطن اليوم وحيثما وجد يستطيع أن يرى كيف سحقت ضخامة فندق الأوراسي، الذي لم يتحرك قيد أنملة منذ تشييده، كل المباني التي شيدت خلال العهد الاستعماري، تماما كما سحق ثوار الأوراس هامة كل من تطاولوا على هذا الشعب الشجاع العظيم المعطاء. لكن ذلك الإنجاز ترك آثارا سلبية في نفوس من استهانوا بالمعماريين المصريين، متناسيين أن هؤلاء هم أحفاد من قاموا ببناء أهم إنجازات معمارية في التاريخ وهي الأهرامات، وبغض النظر عن أي معطيات أخرى أو انتقادات مهما كانت صحتها المطلقة أو النسبية، وتزامن ذلك مع عدد من المشاكل التي أضرت بسمعة المشارقة عامة، والمصريين بوجه خاص. فقد كانت مدارس الجزائر تحتضن مئات المشارقة الذين تحملوا مسؤولية تكوين الجيل الجزائري الجديد، بجانب المعلمين من خريجي المعاهد المعربة، والذين كانوا يعملون خلال الفترة الاستعمارية في مدارس جزائرية أهلية يُموّلُها المواطن في حدود إمكانياته الهزيلة، ولا يحظون بالتالي بما كان يحظى به زملاؤهم في المدارس الفرنسية والفرانكوموزولمان من حقوق إدارية ورعاية اجتماعية وضمانات وظيفية، خصوصا بعد التقاعد. ويسجل هنا للأخ شريف بلقاسم، والذي كان واحد من أبرز رجالات المجموعة المحيطة بالعقيد هواري بو مدين، دوره الكبير في ترسيم أولئك المعلمين الأبرار، ومنحهم المميزات التي حظي بها زملاؤهم في المدرسة الفرنسية سابقا. وكان تعريب المدرسة الجزائرية كفاحا حقيقيا، لأن العراقيل التي وضعتها الإدارة في وجه الوافدين من المشارقة كانت أحيانا عملية تخريب متعمدة، ارتبطت بتزايد السخط الشعبي على شرائح منهم، نتيجة لتصرفات البعض أو لسلوكهم. والذي حدث هو أن الوافدين لم يحظوا في بلادهم بأي دورات تدريبية تعطيهم فكرة عما ينتظرهم في بلد تخلص لتوه من استعمار استيطاني شرس، بفضل مجاهدين صدقوا العزم وأخلصوا النية، وصمود شعب تعرض لعمليات قمع وبطش لم يعرفها شعب على الإطلاق، ولن يعرفها بعد ذلك إلا أبناء الأرض المحتلة في فلسطين، بعد أن اكتوى بنارها شعب إفريقيا الجنوبية في عهد التفرقة العنصرية. جاء الأشقاء إلى الجزائر، وفي نفوس كثير منهم بصمات عمليات الشحن الإعلامية المحلية التي جعلت كل بلد يتصور أنه قلب الدنيا وعقلها، مقترنة بالرواسب التي تكونت لدى بعضهم بفعل الصراعات الحزبية والحزازات القيادية في المشرق العربي، ونتيجة للشروخ التي حدثت بين التيارات الإسلامية والتيارات القومية، وداخل التيارات نفسها، ولم يدرك بعضهم أن انتصار التعريب في الجزائر انتصارٌ للوطن العربي وللعالم الإسلامي كله، والأداء المدرسي بالنسبة للتعريب واحد من أبسط جوانبه، بينما تشكل الحياة العامة والتصرفات اليومية مع المواطنين الجزائريين جانبا من أخطر معطياته وأبقاها أثرا. ولأن مصر هي مصر، فإن الأضواء سُلطت على المصريين، وإلى درجة أن بعض المشارقة ممن يُفطرون رمضان كانوا يقدمون أنفسهم أحيانا كمصريين، بعد أن عرفوا أن الشعب الجزائري لا يتصور وجود عرب مسيحيين، لأنه كان يرى في المسيحية واجهة للاستعمار الفرنسي الذي جاء إلى البلاد في منتصف القرن التاسع عشر مصطحبا، إلى جانب الجنود، قساوسة مهمتهم تنصير البلاد. وأتذكر هنا ما روته لي السيدة زهرة بيطاط عن زيارتها مع السيدة جميلة بو حيرد للمشرق العربي في بداية الستينيات، حيث فوجئت على رأس المستقبلين بشيخ قدم لها على أنه مفتي العراق وبجانبه رجل في مسوح الرهبان كان كبير القساوسة المسيحيين وبجوارهما ثالث كان حاخام اليهود، وتقول لي المجاهدة الكبيرة بكل بساطة أنها عندما التقت الرئيس عبد الكريم قاسم لتوديعه في نهاية الزيارة روت له ما حدث باستغراب كبير قائلة :نحن أحق منكم بأن نكون قلب العروبة، فنحن كلنا عرب مسلمون. وأعاد هذا إلى ذاكرتي ما روي عن القائد الجزائري الكولونيل عمران، الذي راح خلال زيارة إلى سوريا خلال الثورة يؤنب جورج حبش، وربما ميشيل عفلق، على أنه لم يُسلم بعد. وأعود إلى السياق لأضيف أمرا كانت له خطورته، فقد كان كثير من بين المدرسين المصريين، وبغض النظر عن كفاءتهم المهنية، ممن قدموا من المناطق الريفية، ووجدوا أنفسهم، بدون إعداد مُسبق في وسطٍ شعبيٍّ لم يكن يعرف عن مصر إلا الجانب الذي تقدمه السينيما المصرية، ومنهم من كان يتصور أن مصر كلها هي عبد الوهاب وفريد الأطرش وأسمهان، ومجموعة الباشوات والبكوات الذين يلبسون السموكنغ والردنغوت ويرقصون الفالس والتانغو والفوكس تروت. ولقد قيل، في إطار محاولة الإساءة لمصر، أنها كانت ترسل إلى الجزائر المغضوب عليهم سياسيا، وخصوصا ممن ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، وهو أمر غير صحيح بشكل مطلق، فإرسال مُعلم مصري خارج القطر في إطار الإعارة كان يعتبر مكافأة له لا عقوبة تسلط عليه، بالإضافة إلى أن المعلمين المصريين كانوا يخضعون في الجزائر وفي غير الجزائر إلى تأطير أمني تقوم به مصالح السفارة، ولا يسمح لأي منهم بالخروج عن الانضباط المطلوب. والاستثناء حدث مع الشيخ متولي الشعراوي الذي أرسلته مصر إلى الجزائر في حين كان متعاطفا مع خصومها، لكيلا أقول أكثر، كارها لنظام عبد الناصر، وسجل عنه قوله : عندما سمعت بهزيمة 1967 سجدت ركعتين شكرا لله، فلو انتصرنا لنسب فضل النصر للشيوعيين. وربما كان هناك بعض اليساريين ممن تناقضوا مع عبد الناصر، لكنهم كانوا من بين الشخصيات العلمية المعترف بها دوليا، ولم يكن عددهم يتجاوز أصابع اليد الواحدة. وحرصا على مصداقية هذه السطور أستعيد بعض ما كتبته حول المشارقة الوافدين في يناير 1967، أي منذ نحو أربعين عاما، نالت فيها عوامل التعرية الزمنية من ذاكرتي الكثير. وكنت قلت في المقال الذي نشر في مجلة الجيش : "ألقي نظرة خاطفة على الإخوة القادمين من المشرق العربي ليساهموا معنا في البناء، في الرجوع إلى الأصل، والذين وقع عليهم التركيز في حملة الهجوم على الكفاءة العربية وعلى الضمير المهني العربي وعلى القيمة الذاتية لكل منهم، ولقد اعترفتُ في العدد الماضي بأن واردات المشرق العربي لم تكن كلها فوق مستوى الشبهات، ولم يرتفع صوت واحد ليقول: وحتى واردات ما وراء البحر لم تكن كلها فوق مستوى الشبهات )وكان معظم المعلمين الفرنسيين من عناصر الخدمة العسكرية الإجبارية الذين فضلوا قضاء مدة التجنيد داخل المدارس الجزائرية بدلا من عنابر الثكنات العسكرية، وهو ما يعني أنهم لم يتلقوا الإعداد البيداغوجي اللازم لمهمة التدريس( قلت في العدد الماضي .. ويل للمصلين، واليوم، واستكمالا لعناصر الموضوع ودفعا لكل لبس أو غموض..أستكمل الآية، اليوم أقف عند قميص عثمان، عند الأخطاء التي يرتكبها الإخوة القادمون من المشرق العربي، وكانت بالنسبة لمخالب القط الاستعماري..سبّة وملاقيتها حْدور. حدثت أخطاء كثيرة (..) ولكن شيئا غريبا كان يُميّز هذه الأخطاء، فقد كان الخطأ الذي يُنسب للوافد العربي يُسمع في طول الجزائر وعرضها بنفس التفاصيل الدقيقة، ولا معنى لهذا إلا أن هناك حملة منظمة تتولى تسويق الأخبار ونشرها والترويج لها )..( معتمدة على حقيقة يتقبلها المستمع، ثم إضافة تفاصيل لا يملك السامع إنكارها لأنها مرتبطة بنفس الحقيقة، ثم الوصول إلى الهدف الرئيسي بتسلسل يبدون للسذج منطقيا ومعقولا. مثل بسيط سمعته عن حادثة )..( محورها أن الشقيق العربيّ مُغرم بالمساومة، وليس هناك من يُنكر هذا )..( ولكن الرواية تقول أن المساومة حدثت على سعر طابع بريد، وكانت نتيجة تحرياتي أن مواطنا عربيا في مدينة جزائرية طلب من عامل بريد »معوجّ اللكنة« طابعا لخطاب مرسل إلى بلد عربي، وأعطاه العامل طابعا من فئة الدينار، لكن الوافد قال له أن الجزائر عضو في اتحاد البريد العربي وقيمة الطابع البريدي بين الدول العربية ثلاثون سنتيما، وثارت ثائرة أخينا البريدي وأخذته العزة بالإثم، وعلا صوته وهو يُشهد الناس على وقاحة هؤلاء الشرقيين )ليزوريونطو Les orientaux( الذين يساومون حتى على طابع بريد. وحادثة أخرى سمعتها، الاستنتاج منها أن المدرس العربي يُساوم حتى على تذكرة التروللي، وكانت الحقيقة التي وصلت لها من صديق حدث أنه كان يركب نفس الحافلة أن الأخ العربي، في محاولة لتجاذب الحديث مع عامل التذاكر، قال له : في بلدنا ندفع نفس القيمة التي تدفع في الجزائر. والذين عاشوا في المشرق العربي يعرفون بأن تجاذب الحديث في سيارات النقل والقطارات ظاهرة مألوفة، ولكن محصل الحافلة، مشبعا بإقليمية عنصرية ضيقة ومعبئا ضد كل ما هو عربيّ، ثار على مُحدّثه وأخذ في إلقاء محاضرة باللغة الفرنعربية!! عن هؤلاء الكربْ، الذين يساومون حتى على تذاكر التروللي، ثابتة القيمة". من كان وراء ما يحدث؟ كان هذا هو التساؤل الذي أجبتُ عليه في مقال مجلة الجيش عام 1967، وجاء فيه : »كانت نقطة الضعف في بنائنا الوطني هي هؤلاء السادة الذين أوصلتهم إلى مناصبهم التكتلات الإقليمية والشخصية، والذين ورثوا الجهاز الإداري لمجرد أنهم يعرفون الفرنسية، اللغة التي أصبحت بالنسبة لهم الطريق الوحيد للاحتفاظ بالغنائم من مناصب الدولة، ومن هنا جاء الإحساس بأن الوجود الفرنسي في الجزائر بعد استرجاع الاستقلال أقوى منه في الجزائر تحت الاستعمار )..( هذا الابن غير الشرعي لسياسة القوة الثالثة هو الذي كان مخلب القط في تحطيم الخطوات الجادة )..( لاستعادة أصالة الجزائر«. وكانت تلك هي المرحلة التي حدث فيها التصحيح الثوري في 19 جوان، وفاجأ القيادة السياسية المصرية بشكل جعلها تتخبط في ردود فعلها.