تواجه الأفلان في هذه المرحلة تحديات حقيقية، ياتي في مقدمتها ما يمكن أن نسميه " التحدي الداخلي"، إذ أن الحقيقة التي يجب عدم إغفالها أو القفز عنها أو التهوين منها هي أن الأفلان يصطدم يوميا بتلك "التضاربات" التي تصل حد التنازع بين مناضليه وكذا بمواقف انفرادية تتنافى مع مصلحته وتضر بمكانته وسمعته. وتبدو الذخيرة الحية التي يتوفر عليها الأفلان، من إطارات وكفاءات وقدرات، هي التي تشكل "متاعبه"- إن صح هذا التعبير- إذ عوض توظيف تلك القدرات الشخصية في إطار مشروع جماعي في خدمة الحزب والشعب، نجد أن كل واحد يحاول أن يصنع انتصارا لنفسه وليس انتصارا لحزبه. أما الحقيقة الأخرى التي ينبغي التوقف عندها بالرصد والتحليل فهي أن الأفلان يمتلك طاقات هائلة وأفكارا حية وشخصيات ذات قيمة، لكن هذه الطاقات والشخصيات لم تدرك بأنه لا مخرج لها خارج إطار الحزب أو على حسابه، ولعل الوقائع تؤكد آثار التدمير الذاتي الذي يجعل من الأفلان جسدا كبيرا يعاني من الضربات التي تأتيه من الظهر والصدر، ومن أبنائه أو المحسوبين عليه في أكثر الأحيان. ولعله قد آن الأوان لوضع حد لتلك السلوكات المقيتة، إذ لا يمكن استعمال حزب، مثل الأفلان، للحصول عهدات ونجاحات خاصة بالاعتماد على شرعية هذا التنظيم وتجذره الشعبي، سرعان ما يتم تجاوزها بغرض الحضور الإعلامي والتسويق الشخصي وبهدف الحصول على الامتيازات والألقاب. إن الانتماء إلى حزب يعني "عقد" انخراط في قيم وقناعات وسياسات مشتركة والالتزام بها، كما يعني قبول النقاش داخل ذلك الحزب للإتيان بأفكار وتصورات، أما الصراعات العبثية واتخاذ الحزب مجرد مطية لتحقيق المغانم والحصول على مكاسب ظرفية، فإن ذلك يشكل أكبر الأخطار التي تهدد الحزب في سمعته وفي أخلاقيات أعضائه وفي صميم رسالته. هنا ينبغي التوضيح أن الديمقراطية والانضباط لا يتعارضان بل يتكاملان، ولا يعني الانضباط "شرطة" أفكار ولكنه شرط للانسجام والتكامل ولنجاح الحزب، إذ تؤكد القاعدة أن كل مناضل حر في التعبير عن آرائه وفي السعي لتحقيق طموحاته المشروعة، في إطار مصلحة الحزب وليس على حسابها أو على النقيض منها، ولذا يجب تصحيح تلك الأوضاع غير الطبيعية التي تجعل الرؤى الضيقة والمكاسب الشخصية تطغى على المصالح المشتركة. لقد نشأ الأفلان على مجموعة قيم تشكل صلب نضاله ولا يمكنه أن يفرط فيها أو يغض الطرف عنها أو يتسامح مع آفات الفساد والإفساد التي تسربت إلى الممارسة السياسية، كعدم الانضباط والتنطع واستعمال المال لشراء الذمم والرشوة السياسية ونعرات الجاهلية الأولى. لقد تعرض الأفلان إلى أزمة قاسية وعانى لسنوات من تداعياتها المدمرة، لكن ماذا عن اليوم، أو بالأحرى ما هي الدروس التي ينبغي أن يعيها كل أبناء الأفلان؟ - إنه من الطبيعي جدا أن يحرك المؤتمر المقبل وكذا كل استحقاق سياسي شهية الطامحين والطامعين، كما أنه من العادي جدا أن يعرف حزب بوزن الأفلان ما يوصف ب "الحروب" الشرسة من أجل التموقع، لكن الدرس الذي يجب استخلاصه هو أن أخطر ما يمكن أن يهدد الحزب هو أن يتصور هذا أو ذاك، هذه المجموعة أو تلك، أن بالاستطاعة احتواء وتوجيه الأفلان حسب الأمزجة والأهواء أو استخدامه لبلوغ أهداف شخصية، تتنافى مع توجهات الحزب وقناعاته وريادته للساحة السياسية. - إن الأفلان أكبر من أن يقزم أو يحجم أو يكون رهينة في يد أشخاص، فهو ليس ملكا لفرد أو تيار أو جماعة وهو ليس حزب زعامات أو أعيان، بل إن كل الوقائع تؤكد بأنه بحاجة إلى كل أبنائه الحقيقيين، الموالين والغاضبين، "المهتدين" و"الضالين"، ولذلك يجب أن يدرك كل من يتوهمون بأنهم أكبر من جبهة التحرير بأنها ستظل أكبر منهم وفي غنى عنهم، مهما اشتدت طعناتهم المسمومة. - ليس غريبا أن تعرف عملية التحضير للمؤتمر حالة من الغليان ومن التشنجات وإلى غير ذلك من النعوت، لكن المحظور هو أن تطغى المصالح الضيقة والطموحات الشخصية على مصلحة الحزب كبرنامج وأفكار ومستقبل، ولعل السؤال المطروح هو: لماذا شخصنة الصراع على حساب صراع الأفكار؟. - إن الذي يجب أن يتعلمه الجميع هو أن الأشخاص إلى زوال وأن جبهة التحرير هي الباقية، أما جبهة البعض ضد البعض فهي عرضة لأن تنزف حتى الموت، ولذلك فإن ما ينبغي أن يبقى نصب الأعين هو أن المؤتمر المقبل مدعو إلى أن يشطب من قاموسه نهائيا ثقافة الإقصاء مهما كانت الدوافع والمبررات، ولذلك فإن المعركة التي ينبغي أن ينتصر فيها الأفلان هي عقد مؤتمر ناجح " لا يترك مناضلا على قارعة الطريق". تلك بعض الدروس التي يجب أن تحظى بالاهتمام وهي أجدر بالرصد من تلك المعارك الخائبة التي يريد البعض أن يسجن المناضلين في دائرتها المغلقة، وكأن المعركة لا تتجاوز حدود "الإقصاء المتبادل" ورفض فلان وعدم الرضا عن علان ومن يترشح ومن لا يترشح، مع أن المعركة الحقيقية هي بين الأفلان ومنافسيه، وهي أيضا كيف يكرس الأفلان مكانته في الساحة السياسية وكيف يصبح الحاضن للشعب والضامن لتجسيد طموحاته. صحيح أن المعارك الداخلية تترك دوما جراحا غائرة في صفوف المناضلين، وقد كان ذلك في مراحل محددة من تاريخ الأفلان، البعيد والقريب، أشبه ما يكون بالدائرة المهلكة التي تنهك القوى وتشتت الصفوف، ولعل المطلوب في هذه المرحلة بالذات هو تكريس جبهة التحرير الموحدة والمتماسكة، التي تدرك أنه ليس من صالحها تضييع أي مناضل حقيقي، والتي تعي جيدا أن الإقصاء - وهو في حكم الجريمة السياسية- أشبه ما يكون بالجمر تحت الرماد، يلتهب نارا بمجرد هبة ريح خفيفة. إن المناضل الحقيقي لا يريد أن يرى جبهة التحرير مشتتة أو مشوهة أو عاطلة أو مهزومة، ولعله لا اختلاف على أن جبهة التحرير التي تبقى هي التي يكون منبرها فوق الأشخاص والزعامات وهي التي لا تأكل أبناءها ولا تتنكر لرجالها ورموزها، وأيضا هي تلك التي تفرض الانضباط على الجميع، تحاسب وتعاقب وتطهر الصفوف من كل من يرى نفسه فوق التعليمات والضوابط، بل فوق الحزب نفسه. إن الأفلان يبدو وكأنه في مواجهة نفسه وليس مع منافسيه، والمطلوب اليوم هو استيعاب الدرس، حتى لا تصبح المعركة داخلية، وعندها لن ينجو أحد من الهزيمة.. ذلك هو التحدي الذي يدعو مناضلي المبادئ والقيم إلى الوقوف بحزم في وجه المندسين والانتهازيين وكل أولئك الذين يجعلون من النضال مجرد مطية لتحقيق المكاسب والامتيازات على حساب المناضلين الشرفاء الذين يحترقون في الميدان، دون أن تسمع منهم شكوى وهم المظلومون الذين تهضم حقوقهم في كل حين. "إذا أردت أن تلعب بمشاعر الناس فاملأ رؤوسهم بالأكاذيب المصنوعة" [email protected]