عندما تكون القمة العربية الثانية والعشرين في مدينة (سرت) رمز التحدي الليبي للسياسة الأمريكية في سنوات ماضية، وعندما يكون رئيس القمة هو الزعيم معمر القذافي الذي كان يوما ما وريثا للقومية العربية في نسختها الناصرية، وعندما يكون الاستفزاز الإسرائيلي للزعماء العرب قد بلغ حدّه هذه الأيام؛ يصبح التشاؤم من نتائج القمة شكلاً من أشكال القسوة وجلد الذات. نعم إن تشاؤم المواطن العربي كان ولا زال مبررا خاصة وهو يلاحظ الحقائق والمعطيات الرسمية العربية وهي على حالها لا تكاد تسرّ صديقا أو تغيض عدوا، حتى إن مرحلة التململ والإحساس بالمشكلة لم تبدأ بعد عند بعض الأنظمة العربية، وهكذا تواصل مسيرتها عادية في متاهات أوهام السلام والضغوط الأمريكية المنتظرة أو الموعودة على الجانب الإسرائيلي حتى يتنازل ويقدم للفلسطينيين حقوقهم على طبق من ذهب، ويحفظ بالتالي ماء وجوه بعض الزعامات العربية التي لم تعد تملك شيئا تقابل به شعوبها في الملف الفلسطيني، خاصة واللعب على المكشوف ولا مجال لتغطية الوقائع والأحداث في زمن الفضائيات وثورة الانترنت. ومع ذلك فإن التفاؤل مبرّر بعض الشيء خلال هذه القمة العربية التي تحتضنها (الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى) لأن الزعماء العرب، أو أكثرهم على الأقل، تضرروا بشكل أو بآخر جرّاء تدهور الأوضاع على الساحة الفلسطينية إثر الحركات البهلوانية الأخيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والتي برهن من خلالها أنه لا يعترف بأي سقف ولو كان أمريكيا، وهكذا راح يرسّخ عند الحلفاء والخصوم فكرة التماثل التام بين البناء في تل أبيب والقدس واعتبار الأخيرة عاصمة أبدية لدولة الكيان الصهيوني وليست منطقة متنازع عليها كما يعتقد العرب والفلسطينيون. إن التفاؤل مبرّر لأن القاعدة الفيزيائية تقرر أن (لكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه) وبالتالي نتوقع أن لن تمرّ أفعال الحكومة الإسرائيلية بين أعين الزعماء العرب دون أقوال وأفعال مناسبة خاصة أن قمتهم متميّزة، أو هكذا يتوقع الكثيرون، لأنها في بلد يتزعمه رجل ظل يؤكد على مدى أربعين سنة من الحكم أنه فريد عصره فكرا وعملا وقلّ أن يكون له نظير في مفاجآته ومواقفه العربية والدولية. ومع التفاؤل لا بد من استحضار قدر كبير من الحكمة والواقعية على أن لا تكون من قبيل تلك التي أدمنها بعض الزعماء العرب في العقدين الأخيرين وكانت مساوية تماما للخنوع والخضوع والبرود في المواجهة والتردد في المطالبة والاستعداد للتخلي عن كل شيء في فلسطين من أجل لا شيء على الإطلاق عدا ذلك الشيء الذي يُطلق عليه تسمية المفاوضات والمحادثات والجلسات مع كل من هبّ ودبّ من زوّار المنطقة العربية وحَمَلة الاقتراحات والحلول وسماسرة الوساطات وما أكثرهم في الشرق والغرب. إننا فعلا في حاجة إلى الحكمة والواقعية المسؤولة لأن أمتنا في غنى عن العنتريات الفارغة وعودة شعارات رمي إسرائيل في البحر وتسمية الكيان المزعوم الذي أثبت مع الأيام أن بعض كياناتنا السياسية العربية هي المزعومة أو أن مبرر وجودها الوحيد هو حماية الدولة العبرية لا أكثر ولا أقل.. لا حاجة لكل ذلك لأن زمن تلك العنتريات قد ولّى بعد أن صارت الحرب أشكالا وألوانا وربما صار الطّعان واستعمال السّنان هو آخر ما يرد في الذهن عند البعض.. وهكذا فإن الشعوب العربية في غنى عن قرارات كتابية عالية الجودة من الناحية اللغوية وحتى الدخول في مغامرات غير محسوبة العواقب، لكنها أحوج ما تكون إلى جهود صادقة تدفع بها إلى الأمام حضاريا وعلميا وثقافيا لتكون في مستوى التحدي ومن هناك الزحف نحو استرداد الحقوق بعد أن يتحقق التوازن مع الخصوم القريبين والبعيدين. لا نريد أن تتكرر قمة الخرطوم عام 1967 حين أعلن القادة العرب لاءاتهم الثلاث: (لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بدولة الكيان الصهيوني)، لا نريد أن تتكرر تلك اللاءات أو ما يشبهها في قمة (سرت) دون أن يكون وراءها رصيد حقيقي من القوة، وقدر كبير من التفاهم والتنسيق والانسجام بين المواقف العربية من الخليج إلى المحيط. إن ما نريده من قمة (سرت) هو ذلك التحرك الهادئ البعيد عن الصخب والضجيج والجعجعات الإعلامية المستهلكة.. نريد بعض الزعامات التي تتحرك في الظل وتدعم قضية القدسوفلسطين في صمت وتؤسس بجهود ذكية للمرحلة القادمة.. أما أصحاب الأصوات العالية وهواة الظهور أمام الكاميرات فما أكثرهم في الماضي والحاضر وربما المستقبل أيضا. إن المعطيات الدولية الراهنة والمعادلة الإقليمية الحالية قد تفرض على العرب الرسميين بعض المواقف والتحالفات التي لا تتناسب مع حقوقهم المشروعة وقوتهم وثرواتهم وتاريخهم وتطلعات شعوبهم، لكن في أيدي الزعماء العرب زحزحة الأمور بعض الشيء والعودة من منتصف الطريق والبدء من جديد، والمثل يقول: ليس خطأ أن تعود أدراجك ما دمت قد مشيت في الطريق الخطأ.. ومن هناك تكون البداية في ترك قوى الممانعة العربية تتحرك بين الشعوب بحرية تامة وتعمل للمستقبل وتورث القضية للجيل الجديد الذي تقاذفته ثقافة العولمة حتى صارت مباراة كرة قدم بالنسبة له تعادل أولوية الأولويات.