هنالك أمور يتقبلها الناس بالسماع، ولكثرة ما يعاد تكرارها تصبح من الحقائق التي لا يرقى إليها الشك، بل إن أخطر ما في الأمر، أن تتحول إلى مسلمة لا تناقش؛ وقد ساق الشيخ البشير الإبراهيمي مثالاً لهذا التضليل جاء به من كتب النحو، وهو قول النحاة "لا تأكل السمك وتشربَ اللبن"، يأتون بكلمة "تشرب" على هيئات الإعراب المختلفة بالضم والفتح والكسر، ويعنون بها تغير معنى الجملة، بتغير الحركة الإعرابية، وسارت هذه الجملة بين الناس على أنها حكمة طبيّة، ونسجوا حولها الأقاويل، والجملة ليست من كلام أهل الطب . . . ومرة قمت باستعراض كثير من هذه الجمل التي تدور على ألسنة الناس، وحاولت أن أجد لها تأصيلاً، ولم أعد بطائل يذكر، بل وجدت أن بعض ما تتداوله الألسن مخالف تمامًا لموروثنا الثقافي، من ذلك ما يشاع عن "خاتم سليمان"، هذا الخاتم الذي يزعمون أن النبي سليمان، عليه السلام، كان يسوس به ملكه، فهو يحرك به إدارة مملكته بتحريك هذا الخاتم في اصبعه، والناس في أمثالهم يقولون على من يطوعونه في خدمتهم: إنه كالخاتم في الأصبع، وهي إحالة لخاتم سليمان المزعوم. . . والقرآن الكريم لم يحدثنا عن هذا الخاتم ولم يشر إليه، على الرغم من ذكر آيات لملك سليمان، وتطويع الجن في خدمته، وأنه اؤتي قدرة يحل بها شفرة لغات الحيوانات، فلقد حاور الهدهد، واستمع لحوار النمل، غير أن قصة هذا الخاتم العجيب لم يأت القرآن على ذكرها، وما ذلك يقول لك من يطلب منه شيء لا يقدر عليه، او يريد أن يتنصل منه: أنا لا أملك خاتم سليمان. . . والحقيقة أننا وجدنا أثرا لقصة خاتم سليمان في كتب العهد القديم، وفيها كلام لا يليق بمقام الأنبياء، فهذه الكتب تسوق قصة تتحدث عن النبي سليمان، عليه السلام، بوصفه رجلا عاشقا متهالك في إرضاء إحدى نسائه، وأنه لفرط شغفه بها وقع في إقرار نسائه على الشرك بالله وعبادة الأوثان! وأورد الطبري في تفسيره هذه القصة على أنها رواية عن ابن عباس، ومعروف أن الطبري سمى كتابه في التفسير بالجامع، وفيه روايات تافهة كان يوردها من باب الجمع والأمانة العلمية في الإحاطة بمواضيعه؛ وهي كما هو واضح تجني على مقام النبوة، وكلام لا يصح في حق من هم دون الأنبياء... لكن الذي جاء في القرآن فيما يتصل بقصة سليمان، مصطلح ذكر مرة واحدة، وهو مصطلح "المنسأة"، قال تعالى: "فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى? مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ؛ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ"، الآية 14 من سورة سبإ؛ والمنسأة هي العصى، نسأ في اللغة لها دلالتين نسأ البعير إذا جرّه وساقه والمنسأة هي عصى عظيمة تُزجر بها الإبل لتسوقها، فلماذا اذن استعمل كلمة منسأة ولم يستعمل كلمة عصى؟ الظاهر من قصة سليمان، أن هذه العصى كانت تسوق جنود سليمان من الجنّ وغيرهم إلى العمل، كما تساق الإبل بمنسأة راعيها، وبقوا في عملهم مع أن سليمان كان ميتاً، إلى حين أن خربت دابة الأرض العصى وتكسرت، وسقط سليمان، والمنسأة مدّت في زمن حكم سليمان، وهي تظهر حالة من تعليب الضمير الجمعي، فالعصى بقيت تخشى حتى وإن مات صاحبها، وبطل مفعولها الحقيقي، هي تشبه قصة ترويض الفيل، عندما يثبَّت إلى دعامة قوية في صغره، لا يستطيع الفكاك منها، فإذا كبر ثبت إلى دعامة من البلاستك، لكنه لا يحاول مجرد المحاولة الفكاك عنها.