قبل الدخول في الموضوع أكد المحاضر على أهمية توضيح بعض المصطلحات والفرق بينها وهي الدبلوماسية والسياسة الخارجية والعلاقات الدولية مشيرا إلى أن الدبلوماسية هي إحدى أهم وسائل تنفيذ السياسة الخارجية لهذا البلد أو ذاك، في حين أن السياسة الخارجية لأي دولة هي تعبير عن الاتجاهات العامة التي تتبناها في علاقاتها مع البيئة الخارجية من منظور مصالحها الوطنية و أهدافها المحددة والأدوار التي تتصورها لنفسها في محيطها الاقليمي و الدولي، ناهيك عن أن العلاقات الدولية عبارة عن حصيلة التفاعل بين السياسات الخارجية للدول في شكلها التعاوني أو الصراعي، من هنا فإن الدبلوماسية ليست سلوكا يعتمد على المزاج أو الظرفية و إنما هي محكومة بمبادئ عامة ، و لكل دولة منطلقات و مبادئ عامة تحكم سياستها الخارجية تحددها عادة دساتيرها ووثائقها الرسمية، و بالنسبة للجزائر لها جملة من المبادئ و المحددات لسياستها الخارجية لعل من أهمها: - حق الشعوب في تقرير المصير - مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول - رفض استخدام القوة و التهديد بها في التعامل مع الأزمات والنزاعات الدولية واعتماد الحلول السياسية كسبيل لحلها - حق الأمم و الشعوب في السيطرة على ثرواتها الوطنية. - التأكيد على أهمية التعاون الدولي بكل أشكاله بصورة أكثر عدلا وتكافؤا. مما سبق طرح بوطوره السؤال التالي: إلى أي مدى انسجم أداء دبلوماسية الجزائر مع مبادئ ومحددات السياسة الخارجية وفي هذه الحالة ما يتعلق بالبعد الاقتصادي؟ وتطرق إلى صلب الموضوع بالإجابة عن هذا السؤال من خلال النقاط التالية: 1 إن المتتبع لمسار الدبلوماسية الجزائرية في بعدها الاقتصادي يلاحظ أن هذا البعد قد شكل هاجسا كبيرا لدى القيادة السياسية منذ استعادة الاستقلال بعد استعمار بغيض دام 132 سنة، ابتداء من عهد الرئيس الراحل أحمد بن بلة ثم تجسد هذا البعد تدريجيا بعد ترتيب البيت الداخلي مع نهاية عام 1965 بقيادة الرئيس الراحل هواري بومدين عبر تخطيط مدروس للتحكم في زمام الأمور، و من هنا كانت أهمية السيطرة على الثروات الوطنية للنهضة بالبلاد نقطة مهمة في جدول أعمال الدبلوماسية منذ الاستقلال ، حيث ناضلت على جبهات متعددة من أجل هذا الهدف وهو تمكين الأمم و الشعوب من السيطرة على ثرواتها ومقدراتها الوطنية و التصرف فيها حتى لا يبقى استقلالها السياسي شكليا فقط بينما تستمر القوى الأجنبية في التحكم في ثرواتها و استغلالها. 2 ترجمت الجزائر هذا الموقف عمليا و بعيد الاستقلال مباشرة بمعارك التأميم خلال الستينيات و خاتمتها تأميم البترول في 24 فيفري 1971، بنسبة 51% بعد تحضير دقيق للملف و الاستفادة من تجارب سابقة خاصة تفادي سلبياتها ( تأميم إيران للنفط 1952، تأميم مصر لقناة السويس 1956) و لم يكن الأقدام على هذه المعارك الشرسة بالأمر الهين لأنها كانت محفوفة بكل المخاطر، لكن إرادة التحرر من هيمنة الأجنبي كانت صلبة و برؤية واضحة، و بالتالي كانت عملية التأميم الجريئة بكل المقاييس وقتها و الناجحة مثالا اقتدت به دول أخرى مثل العراق و ليبيا و غيرها لاحقا. 3 حتى لا تتاح الفرصة للمستعمر السابق للانقضاض على نجاح عملية التأميم ولتعزيز المكاسب الوطنية نقلت الدبلوماسية الجزائرية المعركة إلى المستوى الدولي بمبادرات هامة ومدروسة بعناية فائقة بداية باستضافة القمة الرابعة لحركة عدم الانحياز، و هي ترفع راية كفاح العالم الثالث من أجل الاستقلال الحقيقي الذي يعتمد على التحرر الاقتصادي، وقد انعقدت هذه القمة في الفترة مابين 5-9 سبتمبر 1973 بحضور ممثلي 76 دولة و أربع عشرة حركة تحرر، وكانت من أنجح قمم هذه الحركة حيث أدخلت عليها نقلة نوعية بإضافة البعد الاقتصادي في العلاقات الدولية وكانت بصمات الجزائر واضحة في هذا الخصوص، وقد صدر في نهاية هذه القمة لأول مرة بيانان أحدهما سياسي تركز حول قضايا التحرر في العالم وأهمية دعمها، في حين تضمن البيان الاقتصادي عدة توصيات منها: - مرا قبة نشاطات الشركات متعددة الجنسيات - العمل على إيجاد صيغ تهدف إلى الدفاع عن مصالح الدول المنتجة للمواد الأولية مع التصرف بكامل سيادتها في مواردها الطبيعية. 4- على ضوء توصيات قمة حركة عدم الانحياز المشار إليها ، و لا سيما في المجال الاقتصادي دعت الجزائر إلى عقد دورة استثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة في رسالة موجهة إلى الأمين العام لهذه الهيئة بتاريخ 30 جانفي 1974 من أجل دراسة (المواد الأولية و التنمية) و قد انعقدت هذه الدورة الاستثنائية يوم 10أفريل 1974 برئاسة الرئيس الراحل هواري بومدين الذي ألقى خطابا هاما برؤية تشخيصية واستشرافية حيث شخص مكامن الداء والاختلالات الكبيرة في العلاقات الدولية بشكل عام وفي بعدها الاقتصادي بصورة خاصة،ووصف النظام الاقتصادي العالمي القائم وقتها بالجائر والبالي الذي تجاوزه الزمن مثل النظام الاستعماري الذي يستمد منه أصوله ومضمونه مع اقتراح خريطة طريق و تصور عملي في سبيل الوصول إلى علاقات دولية أكثر عدلا، وفي ضوء هذه المرافعة التي ما تزال صالحة إلى يومالناس هذا عرضت 94 دولة عضو في الأممالمتحدة مشروع لائحة بعنوان : الإعلان الخاص بإقامة نظام اقتصادي دولي جديد و فعلا صدر عن هذه الدورة الاستثنائية وثيقتان في غاية الأهمية وذلك امتدادا لقرارات قمة الجزائر لحركة عدم الانحياز في هذا الصدد وهما: - إعلان بشأن إقامة نظام اقتصادي دولي جديد - برنامج عمل من أجل إقامة نظام اقتصادي دولي جديد وقد تضمن الإعلان بالخصوص: - المساواة بين الدول و عدم التدخل في شؤونها الداخلية - مشاركتها الفعلية في تسوية مشاكل العالم وحرية اختيار نظامها الاقتصادي والاجتماعي الخاص . - تسيير الدول النامية لثرواتها الطبيعية و نشاطاتها الاقتصادية الضرورية لتنميتها . - تحديد أسعار عادلة و متساوية بين المواد الأولية والمواد الأخرى المصدرة من طرف البلدان النامية، وبين المواد الأولية و المنتجات الأخرى المصدرة من طرف البلدان المتقدمة 5- و في إطار مكمل أدرجت الجزائر أهمية إصلاح المنظمات الدولية القائمة و لا سيما من أجل تكفل أفضل بمشاكل التنمية و كانت وراء إصدار لائحة الأممالمتحدة رقم 3362 في دورتها ال 29 لعام 1974 التي هدفت من ورائها إلى دمقرطة المنظمات الدولية التي تهيمن عليها القوى الكبرى و تضمنت اللائحة بالخصوص : - إعداد دراسة لجعل نظام الأممالمتحدة قادرا على معالجة مشاكل التعاون الاقتصادي، كما صادقت هذه الدورة على : ميثاق الحقوق و الواجبات الاقتصادية للدول من خلال قرارها رقم 3281 بتاريخ 12/12/1974 و قد كانت بصمات دبلوماسية الجزائر واضحة حيث ترأست هذه الدورة ممثلة برئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة بصفته وقتها وزيرا للشؤون الخارجية، وكان من بين قرارات هذه الدورة التاريخية أيضا تجميد عضوية النظام العنصري في جنوب إفريقيا في الأممالمتحدة وتمكين الرئيس ياسر عرفات من المشاركة فيها وإسماع صوت فلسطين والمرافعة بشكل مباشر عن قضيتها العادلة . 6 و في هذا الإطار تم التأكيد على عمل الجزائر ومرافعتها من أجل تشجيع كل صيغة ممكنة لإقامة وتعزيز التعاون جنوب جنوب ، وفي الوقت ذاته السعي الجاد في سبيل تحقيق أهداف الحوار بين الشمال والجنوب، وما تزال الجزائر تناضل بدون هوادة في الاتجاه نفسه على عدة مستويات إقليمية و دولية و بالخصوص مع مجموعة ال 77 التي ترأستها مناصفة مع الصين عام 2012 ، و الجهد ذاته مبذول على مستوى المنظمات الإقليمية والدولية الأخرى، و من باب التذكير فإن مجموعة ال 77 التي تعنى بالتنمية و البعد الاقتصادي في العلاقات الدولية و بالذات بين دول العالم الثالث و الدول المتقدمة، كان أول اجتماع لها على المستوى الوزاري في الجزائر عام 1967 برئاسة وزير الخارجية السيد عبد العزيز بوتفليقة، وأثناءه أقرت ميثاقها الذي حمل اسم ميثاق الجزائر، كما ترأست الجزائر مجموعة التنسيق مع حركة عدم الانحياز على المستوى الوزاري بالموازاة مع اجتماعات الدورة ال 17 لحركة عدم الانحياز التي استضافتها في 29 ماي 2014 و تم خلال هذا الاجتماع المشترك التأكيد على أهمية مواصلة العمل و الجهود لإقامة علاقات دولية جديدة تكون أكثر عدلا و تكافؤا. 7 و في هذا الاتجاه الذي عملت بموجبه دبلوماسية الجزائر ولا تزال تعمل على المستويات الإقليمية حيث صادقت القمة العربية ال 6 التي احتضنتها الجزائر في 28 نوفمبر 1973 على قراري إنشاء : - البنك العربي للتنمية الاقتصادية لإفريقيا - الصندوق العربي للدعم التقني للدول العربية و الإفريقية. 8 على مستوى القارة الإفريقية تعرض المتحدث الىمبادرة الشراكة الجديدة لتنمية إفريقياNEPAD مذكرا بأن الجزائر ممثلة برئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقه كانت عنصرا فاعلا في بلورة هذه المبادرة وإخراجها الى حيز الوجود والتي هي عبارة عن رؤية إستراتيجية لتحقيق التنمية المستدامة في إفريقيا على أساس الشراكة مع الدول الكبرى وتضم عدة أطراف ملقاة على عاتقها أعباء متبادلة من أجل تنمية إفريقيا، وهي الدول الإفريقية من ناحية والدول الصناعية والمنظمات الدولية متعددة الأطراف من ناحية أخرى، وبموجب هذه الشراكة كما ورد في وثيقة النيباد نفسها الصادرة في أكتوبر 2001 في العاصمة النيجيرية أبوجا تلتزم الدول الإفريقية ب: - تحقيق الأمن والسلام في ربوع القارة - إقامة الديمقراطية والحكم الرشد - تعزيز المساءلة والشفافية واحترام حقوق الإنسان في مقابل - قيام الدول الغربية بتخفيض ديون الدول الإفريقية وتقديم المساعدة الاقتصادية لها وفتح الأسواق الدولية لمنتجاتها 9 التشديد على أن الجزائر إحدى أهم ركائز مبادرة النيباد قد قامت بجهود جبارة بالمرافعة لصالح طرح إفريقي يعتمد على تبني إستراتيجية جديدة تقوم على شراكة حقيقية تأخذ بعين الاعتبار المصالح المشتركة والفرص المتكافئة لدول القارة من خلال إدراك أهمية مساعدتها من أجل ترقية منشآتها القاعدية ومشاريعها القادرة على توفير فرص جديدة للتبادل مابين المناطق وداخل المناطق نفسها، كما استطاعت أن تجعل القارة الإفريقية من خلال النيباد قطبا مهما جديدا للتنمية في الاقتصاد العالمي، ورافعت في المحافل الدولية لصالحها لا سيما في قمم أوروبا إفريقيا ومجموعة الدول الثمانية الصناعية الكبرى والصين افريقيا ، وبرز دور الجزائر جليا فعلى سبيل المثال لا الحصر وفي قمة أوروبا-إفريقيا نوفمبر 2009 طرح الرئيس بوتفليقة تصور الجزائر ومن ورائها دول القارة إلى التأسيس لشراكة "حقيقية" بين إفريقيا وأوروبا لاسيما في المسائل الجوهرية المتصلة بالتنمية والسلم والأمن وتقليص الهوة بين الشمال والجنوب.ودعا خلال القمة العربية الإفريقية في أكتوبر 2010 في سرتبليبيا إلى أهمية التكامل بين الدول الأفريقية والعربية، أما في قمة فرنسا إفريقيا بمدينة نيس الفرنسية، 2011 فقد أكد الرئيس بوتقليقة على أهمية (شراكة متوازية تأخذ بعين الاعتبار مصالح إفريقيا من خلال تبادل شروط التنمية) . 10 بفضل مساعي الجزائر المتواصلة ومساهماتها الجادة حققت إفريقيا في إطار النيباد خطوات هامة في مجال السلم وتعزيز دولة القانون وفي هذا الصدد حققت الجزائر أيضا نجاحات معتبرة في مجال الوقاية من النزاعات وتسويتها بفضل تجربتها المعتمدة على مبدأ الحوار وخيار الحل السياسي ، مهما كانت التعقيدات وحجم الصراعات التي تعرفها افريقيا .كما تعمل على استحداث آليات جديدة كفيلة بمواجهة تحديات العولمة التي تواجهها القارة لاسيما التداعيات السلبية للأزمات الاقتصادية والمالية التي يشهدها العالم ، وهنا يجدر التذكير بمبادرة الجزائر في مسح ديون عدة بلدان افريقية وذلك في إطار تدعيم التعاون وتعضيد اللحمة بين بلدان القارة وشعوبها. 11 أما على مستوى المشاريع الكبرى المراهن عليها في أحداث التكامل الإقليمي والاتصال فقد قطعت الجزائر أشواطا مهمة مثل: مشروع الطريق العابر للصحراء (الجزائر- لاغوس- النيجر) المرفق بمشروع أنبوب الغاز من نيجيريا إلى أوروبا مروراً بالجزائروالنيجر. تنفيذ الجزء الخاص بالجزائر من مشروع شبكة الألياف البصرية الرابط بين الجزائر- أبوجا . 12 سعي الدبلوماسية المستمر إلى جلب الاستثمارات الأجنبية وإقامة الشراكات المربحة مع بعض البلدان في إطار خدمة برامج التنمية الوطنية المستدامة بكل أبعادها ، وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى منتدى إفريقيا للاستثمار والأعمال الذي استضافته الجزائر أيام 3 ، 4 و 5 ديسمبر 2016 . 13 دور الجزائر الهام في الاتفاق التاريخي يوم 28 سبتمبر 2016 لمنظمة الأوبك في اجتماع لها بالجزائر بدأ تشاوريا ثم تحول إلى اجتماع رسمي وتضمن تخفيض إنتاجها من النفط إلى مستوى يتراوح بين 5,32 و33 مليون برميل يوميا هذا الاتفاق الذي أكده اجتماع فيينا الرسمي في 30 نوفمبر 2016، بهدف استعادة سوق النفط توازنها مع تطبيق هذا الاتفاق وذلك بالتنسيق مع الدول المنتجة للنفط من خارج أوبك . 14 في الأخير ختم السفير بوطوره المحاضرة بالقول إن البعد الاقتصادي من منطلق توفير شروط خدمة التنمية الوطنية قد احتل ويحتل مكانة مهمة في أجندة الدبلوماسية الجزائرية في مختلف الحقب والمراحل سواء على مستوى التعاون الثنائي مع مختلف دول العالم ، أو على المستوى المتعدد الأطراف في المنظمات الإقليمية والدولية من منظور تحقيق المصالح المشتركة في ظل علاقات دولية أكثر عدلا وأقل هيمنة من هذا الطرف أو ذاك. 15 يمكن الإشارة إلى أن المحاضرة التي لقيت ترحيبا هاما من طرف الجهة المنظمة والحضور النوعي من الأساتذة والأكاديميين قد أثارت العديد من التساؤلات التي أجاب عنها السفير بنوع من الإسهاب وقد تمحورت حول أهمية البعد الاقتصادي في أداء الدبلوماسية وضرورة مواصلته وتعزيزه خدمة للمصلحة الوطنية والتنمية المستدامة للبلاد . * بدعوة من الدكتور سعدان شبايكي رئيس الجمعية الوطنية للاقتصاديين الجزائريين ألقى الدكتور مصطفى بوطوره سفير مستشار بديوان وزير الشؤون الخارجية يوم 14 ديسمبر 2016 هذه المحاضرة التي كانت بعنوان : البعد الاقتصادي في الدبلوماسية الجزائرية.