يعد شارع الحبيب بورقيبة القلب النابض للعاصمة التونسية وملتقى نخبة البلاد من مفكرين وسياسيين وفنانين وغيرهم، تجمعهم المقاهي المنتشرة على الأرصفة العريضة لهذا الشارع الذي لا يهدأ حتى آخر ساعات الليل. قبل أيام معدودات كانت الحركة عادية في هذا الشارع وأغلب شوارع البلاد، لكن يوم الجمعة 14 جانفي قلب الأوضاع رأسا على عقب، عندما تجمهر التونسيون في مسيرة وصفت بالمليونية أمام مقر وزارة الداخلية المطل على الشارع، انتهت إلى هروب رئيسهم السابق زين العابدين بن علي. وجاء سقوط بن علي عقب شهر من التحركات الاجتماعية بمختلف مدن البلاد اندلعت شرارتها في سيدي بوزيد (وسط)، عندما أقدم الشاب محمد البوعزيزي على إحراق نفسه احتجاجا على البطالة والمحسوبية والفساد، لكن سرعان ما انتشرت الاضطرابات إلى مدن متاخمة بالداخل التونسي الذي يشكو التهميش وغياب التنمية. وكان شارع الحبيب بورقيبة المعقل الرئيسي لهذه التحركات في العاصمة، لكن ذلك لم يكن له أي تأثير على الحركة التجارية التي استمرت عادية لأن المقاهي والمطاعم والمحلات التجارية قد عاودت فتح أبوابها، إضافة إلى عودة الموظفين بشكل شبه كلي إلى مكاتبهم وأعمالهم. ويرى المتجول في الشارع الذي أغلق أمام حركة السيارات، حركية مغايرة لما قبل ال14 من هذا الشهر، »هي حركية شعب تواق إلى حرية حرم منها عشرات السنين وكرامة لن تفتك منه بعد اليوم« يقول أحد المارة بصوت عال. وكلما تتقدم بالشارع تجد نفسك أمام حشد من الناس يستمعون إلى من نصب نفسه خطيبا عليهم يستقرئ الأوضاع السياسية التي تمر بها البلاد ويحرضهم بأعلى ما جادت به حنجرته على مواصلة الثورة ودحر من سماهم »فلول النظام السابق المجرمين«. خطيب آخر كان يدعو الناس إلى »القطع مع كل ما له صلة بالماضي الذي كرس الفساد ومظاهر الكفر في البلاد والعمل على بناء دولة تحكمها الشريعة الإسلامية والسنة النبوية وتعيد تونس إلى محيطها العربي المسلم«. واصطحب آخر أولاده وبناته ورفع كل واحد منهم لافتات كتب عليها »ادعم فرص الحريات من أجل مستقبل لامع لأولادي« و»يا تجمعيين اخرجوا من الحكومة« و»يا ذيول بن علي غادروا«. ورفع غيرهم شعارات بينها »الحكومة مسرحية والعصابة هي هي« و»لا سبيل لحكومة أياديها ملطخة بدماء الشهداء« و»تونس حرة والتجمع على برا« و»ثورة الشعب ثورة ضد الإقطاع، لا رجوع إلى الوراء«. وتعليقا على هذه المشاهد غير المسبوقة، يقول مواطن يدعى عثمان بن تركية إن تونس تحولت فجأة إلى »هايد بارك« كبير، في إشارة إلى الحديقة التي تحمل ذات الاسم في لندن وتعرف بمثل هذه التجمعات والخطباء الذين يعبرون عن ما يختلج في صدورهم بكل حرية وبلا حسيب ولا رقيب. وفي هذه الأثناء كانت جحافل كبيرة من المتظاهرين تجوب المكان رافعة شعارات سياسية تطالب أغلبها باستقالة حكومة الوحدة الوطنية وتشكيل حكومة تكنوقراط جديدة. وتوجه المتظاهرون نحو شارع محمد الخامس حيث مقر حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم سابقا، وتجمهروا بالآلاف أمام بنايته الشاهقة منادين بإزالة شعار الحزب من على واجهة البناية، وهو ما تم فعلا تحت تصفيق الناس وزغاريد النسوة. وكانت كل هذه التحركات تدور أمام أنظار الشرطة المنتشرة بكثافة على أرصفة الشارع، وقوات الجيش المرابطة بمحيط وزارة الداخلية على العربات المدرعة والدبابات التي وضعت عليها أكاليل من الورود، وكان وجودها فرصة لالتقاط صور للذكرى.