النقاش الذي بدأ يأخذ طريقه إلى الفضاء السياسي حول طبيعة الإصلاحات الواجب القيام بها لتحقيق التغيير السلمي المرن والسلس، يؤكد مجددا بأن عدوى ما اصطلح على تسميتها ب »الثورات العربية«، لن تصل إلى الجزائر بالكيفية التي تريدها بعض الأطراف في الخارج أو الداخل. فما عاشته الجزائر في أكتوبر 88، وما تبع هذا المنعرج التاريخي من أحداث أرغمت البلد على الدخول في متاهات العنف الإرهابي لقرابة العقدين من الزمن، تحوّلت إلى خطوط حمراء يدركها كل راغب في التغيير سواء كان في السلطة أو في المعارضة. غطت الحرب الأهلية المدمرة التي تعيشها الجارة ليبيا، والاحتجاجات المأساوية التي تتواصل في اليمن وامتد لهيبها إلى سوريا، على كل الأحداث، فما يسمى ب »ثورات الشارع العربي« التي ترعاها العواصمالغربية وتحيطها بكل العناية ، أضحت بمثابة الشغل الشاغل للجميع، بل إن الخوف من امتداد لهيب الفتنة إلى باقي الأقطار هو الهم المشترك لكل الأنظمة العربية التي لم يحن دورها لتدخل الصف مع الدول الغارقة في العنف والاقتتال، باسم التغيير وإسقاط أنظمة أعطت بطغيانها واستبدادها وفسادها وجبروت فراعنتها، مبررات العنف والتدخل الخارجي، وحوّلت بغبائها الغرب المتآمر والدموي إلى »حمامة سلام« تحمل غصن زيتون مسموم إلى شعوب غاضبة أعماها ظلم حكامها وأغشى أعينها فراعنة العصر عن رؤية الواقع بعين الممحص، والوقوف على خلفية ما يحاك ضد العالم العربي والإسلامي من مؤامرات لتفكيك ما أمكن تفكيكه وإغراق الجميع في فتنة لا تبقي ولا تذر. الجزائر تعيش هي الأخرى على وقع ما يحصل في محيطها العربي، خاصة وأن الحرب الأهلية المدمرة تدور رحاها على بعد أمتار من حدودها الشرقية، وطائرات الحلف الأطلسي تقصف وتجوب سماء ليبيا أمام أنظار الجزائريين الذين يدركون تمام الإدراك بأن المثال الليبي هو درس يراد إيصاله إلى كل الدول العربية التي لا تزال تؤمن بالقيم ومبادئ الحرية والاستقلال، ولا تزال ترفض الركوع مع الراكعين أو تطبع مع المطبعين، ولا تزال تعيش على أفكار يعتبرها من يسمون ب »الثوار الجدد«، أفكارا قديمة عافها الزمن ولم تعد تصلح في زمن الانبطاح والاستسلام أمام أمريكا وشركائها في الجريمة. فكما كان منتظرا وصلت عدوى العنف إلى سوريا، وتحوّلت درعا بضحاياها الذين حصدتهم أجهزة القمع الغبية، إلى سيدي بوزيد التي ألهبت تونس وتحوّلت إلى كومة من اللهب اضطرت زين العابدين بن علي على الهرب، فدرعا أضحت مثالا لكل المدن والقرى السورية، ويبدو أن خطاب بشار الأسد لم يغير من الوضع ولم يخمد ثورة الغضب في نفوس السوريين، بل على العكس من ذلك جعلهم يخرجون في جمعة الغضب في أغلب محافظات سوريا . قد تكون سوريا مرتعا جديدا لنوع الفتنة التي تأكل الأخضر واليابس، ووجود هذا البلد على تخوم الدولة العبرية قد يعفيها من أن تقع في نفس المستنقع الذي وقعت فيه جماهيرية القذافي، وربما يكون النموذج المصري الأقرب إلى التطبيق في هذا البلد الذي توجد به مؤسسة عسكرية لا تقل قوة وتماسكا من المؤسسة العسكرية المصرية التي حكمت زمام الأمور في البلد أثناء الانتفاضة الشعبية وحالت دون دخول مصر في حالة من الفوضى ولعبت دور الوسيط بين الشعب ورأس النظام، ويسّرت الطريق لمبارك لترك الحكم، وضمنت استمرار الدولة، كما ضمنت احترام الاتفاقيات الدولية التي تربط مصر بالمجتمع الدولي. النموذج المصري قد يساعد جيران سوريا، سواء تعلق الأمر بإسرائيل، أو بالأردن وتركيا ودول الخليج العربي، وكل الدلائل تشير إلى أن أمريكا وحتى فرنسا لن يقبلوا بأن تقع سوريا في دوامة الحرب الأهلية، خوفا على أمن إسرائيل وخوفا على مصالحهم السياسية في لبنان، وخوفا على الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، خاصة وأن الاضطرابات قد تهدد أمن تل أبيب، ثم إن نشوب حرب في دولة الأسد قد تأتي بنظام حكم يهدد الوضع برمته. لقد تعهد بشار الأسد بالقيام بإصلاحات ورفع حالة الطوارئ المطبقة في البلاد منذ عقود، ومثل هذه الوعود قد تجعله يستفيد من تأجيل المعارضة لبعض مطالبها المتعلقة بالتغيير، وعليه فإن وضع الأسد يبدو أحسن من وضع الرئيس اليمني علي عبد الله صالح الذي يعيش أيامه الأخيرة بعدما بدأت نذر المواجهات الأمنية تلوح في الأفق، بل إن العديد من المراقبين يرون بأن الأيام التي سوف يقضيها صالح على رأس اليمن ستكون بفضل أمريكا فقط، فواشنطن هي التي ترفض التعجيل بتغيير النظام في بلد قد يصعب إيجاد البديل المناسب فيه في ظل الخطر الذي يمثله تنظيم القاعدة فيها، فضلا عن خطر الشيعة الحوثيين المدعومين من إيران، وخطر الحراك الجنوبي المطالب بإعادة تقسيم اليمن. ويظل الوضع في ليبيا يميل إلى التعفن، فالمواجهات الدامية لا تزال متواصلة، ولا يزال »الاحتلال والتحرير« رهين جولات الكر والفر بين قوات القذافي ومن ينعتهم بعض الإعلام العربي ب »الثوار«، ووسط أجواء الحرب والدمار والمئات من القتلى الذين يسقطون في المواجهات أو تدكهم صواريخ الطوماهاوك والقاذفات الفرنسية والأمريكية والبريطانية وحتى القطرية، تظهر خيوط المؤامرة مع تأكيد وجود المخابرات الأمريكية الفرنسية وحتى البريطانية في الميدان لمساعدة المعارضة المسلحة في حربها ضد النظام الليبي، وفي ظل النقاش الدائر حول مسألة تسليح المعارضة ومدها بالوسائل العسكرية الثقيلة لوقف زحف عساكر العقيد والكتائب الأمنية التابعة لأنجاله، في تجاوز خطير للتفويض الأممي وللقرار الذي أجاز الحظر الجوي على ليبيا، ويبدو أن تسليح المعارضة ومدها بالعون المباشر هو تمهيد لدخول الحلفاء في حرب برية ضد القذافي. حرب يتخوفون من خوضها في الظرف الحالي لاعتبارات تتعلق بالجوانب السياسية أو العسكرية. فأمريكا لا تريد الوقوع مجددا في مستنقع شبيه بالمستنقع العراقي أو الأفغاني، وتفضل التريث حتى تنهك المعارضة كاهل النظام الليبي أو ما تبقى منه، وقد تبدو الانقسامات وحالات التمرد الداخلية، خاصة بعد هروب وزير الخارجية موسى كوسا إلى الخارج، أحسن بديل للتخلص من القذافي وإن اقتضى الأمر إيجاد بلد آمن للزعيم وأفراد عائلته ومنحه الحصانة وحمايته من الليبيين. وبالعودة إلى التصريحات التي أدلى بها أحمد أويحيى في حصة تلفزيونية، بصفته أمين عام التجمع الوطني الديمقراطي، يبدو أن هناك قناعة لدى السلطة بأن الجزائر هي في منأى عن الفتن المدمّرة التي ذكرناها آنفا، فأويحيى يرى بأن الجزائر ليست في أزمة سياسية حتى يطالب البعض بحل البرلمان، وبالتغيير الحكومي أو حتى بالمجلس التأسيسي أو تنظيم ندوة وطنية، وقال أمين عام الأرندي أن الجزائر ليس لها رئيس بقي في الحكم 20 سنة، واعتبر بأن المجلس التأسيسي يعني التنكر لكل ما بني خلال 50 سنة، وهو الموقف ذاته الذي تتبناه العديد من التشكيلات السياسية، ومنها حزب جبهة التحرير الوطني. لكن وحتى في ظل إصرار بعض أقطاب المعارضة مثل الأفافاس وحزب العمال على مطلب المجلس التأسيسي، فهذا لا يعني بأن هناك انحرافا نحو المزيد من الراديكالية فيما يتعلق بمطالب التغيير، بل بالعكس هناك قناعة لدى الجميع، في الموالاة كما في المعارضة، بأن التغيير يجب أن يكون سلميا وسلسا، ويجب تجنيب الجزائر السقوط في الفتن التي تعصف بالكثير من الدول العربية هذه الأيام.