ما يجري، منذ حوالي شمر في ليبيا، يثير الكثير من التساؤلات عن طبيعة الأحداث وعن مآل هذه الدولة المغاربية؛ فلأول مرة، في التاريخ، نشهد تدخلا عسكريا جويا من طرف القوى الكبرى إلى جانب انتفاضة شعبية في المنطقة العربية، ضد حاكم مستبد. المعروف، منذ استعادة الدول العربية لسيادتها، أن الغرب لا يدعم ثورات الشعوب بل يمد الأنظمة العربية الدكتاتورية بوسائل القمع ويضمن الحماية الكاملة لتلك التي تحكم بأساليب بالية. منذ بداية الخمسينيات إلى اليوم والدول الغربية، خاصة بريطانيا ثم الولاياتالمتحدةالأمريكية ففرنسا، تسعى بكل الوسائل إلى تعطيل كل تطور أو عصرنة للدول العربية. مع تطور تكنولوجيات الإعلام والاتصال وما رافق ذلك من بروز لمظاهر العولمة بكل أشكالها، بدأت الدول الكبرى تغير إستراتيجيتها تجاه الأنظمة العربية التي يبدو أنها استنزفت ولم يعد لها ما تقدمه للغرب، كما لم يعد بإمكانها خدمة مصالحه بأساليبها القديمة في زمن يتفاعل فيه الأطفال في القرى المتربة والفاقدة لكل مظاهر الحياة الحديثة في العالم العربي مع غيرهم من أطفال الغرب. يبدو أن هذا ما حدث مع حسني مبارك ومن قبله زين العابدين بن علي، فالرجلان خدما القوى الغربية بكل ما كان في مقدورهما، وحسني مبارك بالذات حول بلده إلى قاعدة أمامية لأمريكا ولإسرائيل تفعلان فيها ما تشاءان، لكن بمجرد أن ارتفعت أصوات بعض القادة الغربيين، منها صوت أوباما نفسه، تطالبهما بالرحيل فهما الرسالة وأدركا بأن نهايتهما حلت وان عليهما المغادرة فعلا، فغادرا. ما يحدث في ليبيا اليوم، هو تتابع لما حدث في كل من تونس ومصر مع فارق في الثروة. الدولتان الأولتان لا تملكان ثروة بترولية، فكل ثروتهما كانت تلك الملايير التي نهبها الحاكمان ووضعاها في البنوك الغربية والتي جمدت وسيستمر تجميدها لسنوات عديدة حتى تتم الإجراءات الطويلة والمعقدة قبل تحويلها، إن تم ذلك، إلى الخزينة العمومية للبلدين؛ مما يعني أن البنوك الغربية هي المستفيد ولعدة سنوات من الأموال المجمدة. بالنسبة لليبيا، الوضع إذن مختلف، فالبلد هو أكبر منتج لأجود أنواع البترول في المنطقة وله ثروة تقدر بمئات الملايير المودعة في البنوك الغربية، هذا إضافة إلى تعنت القذافي، يجعل ما حصل بطريقة سلمية وسهلة، إلى حد ما، في كل من تونس ومصر، لا يقع بالطريقة نفسها في ليبيا. عندما قال القذافي بأن ليبيا ليست تونس ولا مصر فهو كان يدرك جيدا ما يعنيه، فثروة ليبيا تمكن من شراء الذمم وتجييش المرتزقة وإسكات الكثير من الأصوات وتضمن ولاء حتى بعض الؤثرين في المنطقة العربية. القذافي كان يدرك هذا وكان يعرف أيضا بأن الغرب لن يفرط في مصالحه في ليبيا، وهي مصالح جد معتبرة وتتعلق أساسا بالبترول والاستثمارات. كل هذه الأمور كان القذافي يدركها، لكن ما لم يدركه، كما لم يدركه باقي القادة العرب، هو أن الوضع تغير كثيرا في العالم الحديث وأن الغرب الباحث دوما عن تحقيق المزيد من الرفاهية لشعوبه يدرك جيدا بأن مصالحه ستكون، مستقبلا، مصونة أفضل مع الشعوب، وأن تدمير البنية التحتية والآليات العسكرية لبلد بترولي كليبيا يعود بفوائد كبيرة على مصانع السلاح والشركات الغربية بعد الانتهاء من أمر القذافي ووصول نظام حكم جديد إلى ليبيا. فالدول الغربية المساندة اليوم لانتفاضة الشعب الليبي والتي يقوم طيرانها بضرب الوحدات العسكرية التابعة للقذافي وتدمر المطارات والمنشآت هي نفسها التي ستستفيد من عقود إعادة تسليح الجيش الليبي وإعادة بناء ما خربه طيرانها. هذا لا يعني أبدا إن صاحب هذه الكلمات يتبنى هنا الرأي القائل بان الانتفاضات التي وقعت، وتقع في المنطقة العربية، هي موجهة فعلا، إنما ما يجب إبرازه هو قدرة الدول الغربية على التأقلم، بسرعة، مع المستجدات بما يخدم مصالحها وعجز الأنظمة العربية على فهم ما يقع حولها والتأقلم معه بالسرعة المطلوبة وإحداث التغيير المنتظر بما ينقذ أمن البلد ولا يعرضه لأخطار التدخل الأجنبي. لو أن القذافي فكر يوما بأن ليبيا ليست ملكا شخصيا له وأن الشعب الليبي ليس محكوما عليه بأن يعيش لأجيال عديدة تحت حكم نفس العائلة، وأن الحاكم الشجاع هو ذلك الذي يواجه بنفسه ولا يختبئ وراء الأطفال والنساء الذين يحرم القانون الدولي استعمالهم كدروع بشرية، لو فكر القذافي يوما في ذلك وأدرك بأنه، في منصبه، مجرد خادم لبلده لانسحب مبكرا ولكان وضع الآليات الكفيلة بالتداول على السلطة بهدوء وبما يخدم ليبيا. لو أن القذافي كان مستنيرا لعمل، على مدار العقود الأربعة التي حكم فيها ليبيا، على بناء بلد حديث فيه شعب متعلم يقدس العمل وليس كما من الناس الذين نشاهدهم باستمرار، على قنواته التليفزيونية، يقتلون الوقت في مهرجانات المساندة لشخصه ومسيرات التأييد لمواقفه وجلسات الشعر لمدح خصاله. لو أن القذافي كان وطنيا بالفعل لحاسب نفسه على كل دولار يصرفه من المال العام ولجعل من أبنائه قدوة في الأخلاق والتواضع ولأبعدهم عن أمور الرعية، ولحقق العدل وفتح المجال للتعبير الحر دون خوف أو وجل. لو فعل ذلك، لكان دخل التاريخ من بابه الواسع. لكنها لعنة الكرسي التي تجعل الحاكم العربي لا يغادر إلا إلى القبر، غير مأسوف عليه؛ أو إلى مزبلة التاريخ.