هيئة الإذاعة البريطانية، أو بي بي سي من لندن.. من منّا لا يسمع بها، وهل هناك من أهل الاختصاص من يستهين بدورها الفاعل وانتشارها الواسع وهي تتحدث إلى العالم بخمس وثلاثين لغة.. لقد تأسست عام 1922، وأعيد تنظيمها بعد خمس سنوات وفقا لنصوص مرسوم ملكي، وظلت تتمتع بالاستقلال التام في خدماتها الإذاعية والتلفازية، وصار لدى الشعب البريطاني اعتقاد راسخ بأهمية أن تظل الهيئة في منأى عن الأحزاب السياسية. شهرة هيئة الإذاعة البريطانية لا تعني بالضرورة أنها دون أخطاء ونقائص، لكن المؤكد أنها إحدى مؤسسات الإعلام التي تربّعت، وما زالت، على كرسي الحرفية والنزاهة.. وتحولت مع مرور الزمن إلى مدرسة إعلامية فريدة يحترمها أهل الاختصاص في جهات العالم الأربع، وإن حافظت أقلية منهم أو أكثرية على موقف معيّن من الإمبراطورية التي لم تكن الشمس تغيب عن أراضيها في القرن التاسع عشر، وظلت الآن كذلك عبر حضورها الإعلامي في جميع أصقاع الدنيا. تذكّرتُ هيئة الإذاعة البريطانية، وتجارب أخرى أقل منها نجاحا وانتشارا، في ختام المؤتمر الإسلامي لوزراء الإعلام الذي تشهده لأول مرة دولة في وسط أفريقيا، وهي دولة الغابون وعاصمتها الجميلة ليبرفيل، وسبب الذكرى هو تركيز المؤتمر ووزراء الإعلام الحاضرين على قناة منظمة التعاون الإسلامي (OIC)، حيث أخذت حيّزا من الحوار الذي دار خلال المؤتمر وتراوحت الأحاديث بين متفائل ومتشائم، وبين متساهل يراها خطوة قريبة المنال وآخر يرى أنها في حاجة إلى دراسات أعمق وأوسع. الفكرة الأولية لهذه القناة المنتظرة هي مؤسسة تلفازية تقدم برامجها وأخبارها بثلاث لغات (العربية والإنجليزية والفرنسية) وهي اللغات المعتمدة في أعمال واجتماعات وأمانة منظمة التعاون الإسلامي. والأهداف المسطرة لها تدور حول التقريب بين الشعوب الإسلامية في قارات العالم، وتسعى أيضا لمقاومة ظاهرة الإسلاموفوبيا التي انتشرت في البلدان الغربية، كما ستكون صوتا عاليا مدافعا ومنافحا عن قضية القدس وفلسطين وإعادتها إلى رأس القائمة في أولويات الأمة. وبداية يمكن القول إن فتح قناة فضائية لم يعد مشكلة لأن السماء تزدحم بالأقمار الصناعية وحيثما حرّكت الصحن اللاقط وضغطت على أزرار آلة التحكم؛ تساقطت عليك قنوات من كل ألوان الطيف.. وهكذا فإن ظهور قناة تحمل شعارا محددا لهذه الجهة أو تلك صار سهل المنار، لكن الإبداع والتميّز يظهر عند القناة التي تحمل رؤية ورسالة واضحة، وتسعى، في حالتنا هذه، نحو (وضع سياسة إستراتيجية متأنية لتأسيس إعلام إسلامي مشترك يبدأ بالتنمية البشرية ويسهم في صياغة المشهد السياسي والإعلامي العالمي) على حد تعبير الأستاذة عواطف عبد الدائم الطشاني وزيرة الثقافة والمجتمع المدني الليبية التي ترأست وفد بلادها في المؤتمر الإسلامي لوزراء الإعلام. إن صياغة قيمنا من جديد وترسيخها بين الشعوب هي الهدف الرئيس الذي ينبغي أن تنطلق منه القناة الفضائية لتكون رائدة فعلا، لأنّ شعوبنا ملّت، أو تعبت، من الدعوات الحماسية والتعبئة المعنوية المؤقتة التي تتناقص تدريجيا مثل بالون كبير يتسرب الهواء منه عبر ثقب دقيق. إن الأمة في حاجة إلى صياغة مشروع طموح بعيد عن العواطف والتصورات القديمة للوحدة والتقارب، لأن لهذه القضايا تطبيقات معاصرة ناجعة ربما تجسدت بعضها في تجربة الإتحاد الأوروبي وتجمعات اقتصادية وتحالفات سياسية أخرى. إن غيرنا وصل إلى مراحل متقدمة من التنسيق والتعاون الاقتصادي والعملة الموحدة والحدود المفتوحة والسياسة الخارجية والأمنية التي ترتكز على قواعد يحترمها الجميع، وهكذا وقد نتشاءم إذا نظرنا إلى حالنا وأنفسنا وما تمرّ به الأمة الإسلامية، والأمة العربية قلبها النابض، لكننا سوف نتفاءل عندما نعود إلى قراءة المعطيات التي يقف عليها الإعلام والاتصال اليوم لندرك أن ما حققه غيرنا في عشرات السنين قد نصل إليه في عشر سنوات فقط، لأن ثورة الاتصال ستصنع، مع وضوح الهدف وصدق العزم، المعجزات في تقريب الشعوب وإعادة تشكيل قيمها الإيجابية من جديد وتحسيسها بأهمية التكتل والتعاون. إن الأمة في حاجة إلى تفعيل كياناتها الإقليمية الموجودة والعمل بجدّ على دفع منظمة التعاون الإسلامي ومؤسساتها نحو آفاق أرحب من التنسيق الحقيقي والتعاون الاقتصادي والسياسي الجدّي بما يحقق الفضاء الذي تحلم به الشعوب دون أن تمسّ خصوصياتها الثقافية واللغوية والجغرافية، ومرة أخرى ينبغي التأكيد على أن الإعلام هو المؤهل لفتح الطريق وصناعة هذه القيمة لدى الشعوب والنخب من جهة، وفي المقابل رد محاولات الخصوم التي ستظهر بعد ذلك عندما تشعر أطراف دولية بالخطر من الكيان الجديد. مشروع قناة منظمة (OIC) طموح، لكنه ليس مستحيلا، وتجربة (أورو نيوز) ماثلة أمامنا، ويمكن أن تتجاوزها المنظمة لنصل إلى مجال أكثر رحابة لأن مساحات الالتقاء والثقافة والحضارة التي تجمعنا أقدر على التجميع والتنسيق، بقدر أكبر مما عند الأوروبيين. وحتى عندما ترى هذه القناة النور سواء بثلاث لغات، أو أكثر بعد ذلك، هل تتوقف الجهود عند هذا الحد؟.. إن عالمنا مشحون بمؤسسات الإعلام العابرة للقارات وتأثيراتها في تزايد، وسرعة انتقال رؤوس الأموال وطرق الاستثمار الحديثة تحتّم على أصحاب الثروات، في العالمين العربي والإسلامي، الدخول في هذا المعترك بقوة والعمل على أن يتحولوا إلى أرقام صعبة في معادلات الإعلام العالمي عبر المساهمة في المؤسسات الإعلامية العالمية. الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي البروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلي دعا القطاع الخاص في العالم الإسلامي، خلال مؤتمر وزراء الإعلام، إلى الاستثمار في كبريات المؤسسات الإعلامية، لتحقيق ربحية مالية والتأثير في مسار الأخبار والبرامج بما يصحح صورة الإسلام في جميع أنحاء العالم.. وهي دعوة جديرة بالدراسة الجادّة والتطبيق.