في العاشر من شهر ماي 1933، حدثت محرقة عظيمة في ألمانيا . وكان العقل ضحية هذه المحرقة وكبش الفداء فيها. جاء المنظرون الجدد بألوانهم الكاكية وجزماتهم وصلبانهم المعقوفة المطبوعة على قمصانهم، وألقموا النيران كتلا من الكتب وما إليها من أدوات العقل بحجة أنها سبب الردة التي عرفها الشعب الألماني منذ نهاية الحرب العالمية الأولى . وقبل ذلك، جاءت قبائل التتر من أعماق آسيا القصية، وألقت في مياه دجلة كنوزا لا تعد ولا تحصى ولا تقدر بثمن من المخطوطات التي ازدهت بها حضارة الإسلام والمسلمين . لغة القهر هذه معروفة في كل زمان ومكان. يزعم أصحابها أنهم يعيدون صياغة التاريخ والحياة كلها، ولا يجدون من سبيل آخر إلى مثل هذه الصياغة الجديدة سوى النار وما إليها من وسائل التدمير الأخرى. ولغة القهر هذه أيضا، ويا للأسف، هي التي ما تزال السائدة الرائجة في عالمنا العربي. وما أكثر الذين يناصرونها وينصحون بالأخذ بها طمعا في الحفاظ على بعض الامتيازات، وظنا منهم أن مثل هذه الامتيازات باقية . لقد استصدر هتلر، بعد محرقة ماي 1933، قانونا بإنشاء دار للثقافة. وأمر الكتاب والممثلين والفنانين بمختلف اتجاهاتهم بالانخراط في عضوية هذه الدار وإلا سقطت عنهم حقوقهم في النشر والتمثيل والعرض. ووجد هتلر من يمشي في ركابه، ويقدم له فروض الطاعة والولاء. البعض فعلها إيمانا منه بأن هتلر قائد مجدد على وشك أن ينتقم لألمانيا ويجعل منها بلدا فوق البلدان كلها. والبعض الآخر فعلها نكاية في فرنسا وفي الإتحاد السوفياتي. والقلة القليلة من أهل الفكر والأدب في ألمانيا أدركت خطورة ما أقدم عليه هتلر وأشياعه الذين يناصرونه بين الأدباء والمفكرين والفنانين. لكن سنة الوجود هي التي انتصرت في آخر المطاف. ولن نقول إن الحلفاء انتصروا، ذلك أن الحق هو الذي ترجح كفته دائما وأبدا. وكان الحق يومها إلى جانب الحلفاء والشعوب المتضررة من الحرب العالمية الثانية. فعلا، لو انتصر هتلر في حربه الهمجية لسارت الشمس في غير مدارها، ولسبح القمر في فلك آخر. ما الذي يحدث عندنا في هذه الدارة العربية ؟ تتر ومغول ونازيون جدد ينهجون نفس النهج الهتلري بطرق قد تكون مهذبة. الكتاب حين يمنع من الدخول إلى هذا البلد العربي أو ذاك يلقى نفس المصير الذي لاقاه المخطوط العربي في أخريات العهد الإسلامي الزاهر، أي عندما ألقي به في مياه دجلة. والصحيفة عندما تقف عاجزة عن الانتقال من المشرق إلى المغرب، أو من المغرب إلى المشرق، أو حتى ضمن المساحة الجغرافية الواحدة الموحدة، إنما تجابه نفس المصير الذي كان من نصيب الكتب والصحف والأسطوانات في ألمانيا الهتلرية عام 1933 . وعليه، فإن القول بأن هذه الدولة أو تلك إنما ترمي إلى حماية هويتها، وتأصيل سياستها الثقافية عندما تصدر قوانين بمنع تداول كتب معينة أو أفلام سينمائية وتلفزيونية أو صحف أو مجلات، إنما تحكم على نفسها بالموت، أجل بالموت. وما أكثر عدد الدول التي ماتت في هذا الزمن من جراء مثل هذه الأفعال. تذهب بها الظنون إلى أنها دول واقفة لأن لها حكومات وعساكر وتمثيليات ديبلوماسية، لكن الواقع العملي يقول غير ذلك. بعض الدول لا تحتاج إلى وزارات ثقافة، لا لأنها لا تنطوي على ثقافات، بل لأنها وضعت حدا لنشاط الفكر والأدب والعلم نزولا عند رغبة بعض الحكام والعساكر المتحذلقين الذين يدعون معرفة بكل شيء وهم أعجز ما يكونون على علم بأبجدية السياسة وبقراءة الخرائط العسكرية وغير العسكرية. هزائمنا المتكررة في هذا العالم العربي منذ نهايات الحرب العالمية الثانية أبلغ دليل على ذلك. حقا، لقد افتكت الدول العربية استقلالها، لكن هذا الإفتكاك في حد ذاته ليس إلا مفتاحا من المفاتيح التي يفترض فيها أن تستخدمه. غير أن السلوك السياسي الذي أخذت به هذه الدول سفه أحلامها وأحلام شعوبها. عندما يعجز الإنسان العربي عن اقتناء ديوان شعر صدر في المشرق أو في المغرب، وعندما ينتظر الأدهر الطوال لكي يبسط أمامه جريدة الأهرام أو القبس أو الشعب أو العلم، وعندما يسيل لعابه من أجل أن يتفرج على هذا الفيلم أوذاك، فمعنى ذلك أن هناك شيئا عفنا في مملكة الدانمارك كما يقول ويليام شكسبير. والعفن لا يداوى بالعفن، وإنما يتطلب منا أن ننظفه ونطهره ونصب عليه جميع المواد القاتلة للبكتيريات . نقول مثل هذا الكلام، لكن، ويا للأسف، يجيء نسل من التتار ومن الهتلريين لكي يغسلوا أدمغتنا بحجة أننا انحرفنا عن الجادة الصحيحة. ويزعمون أننا كفرنا وألحدنا، بل، ولعل بعضهم قد يبادر إلى النظر في الكروموزومات التي تنطوي عليها شفراتنا الوراثية لكي يهندسها على هواه حتى نرضخ له ونسبح بحمده. ما العمل؟ هل نغلق أبواب هذا العالم العربي إلى الأبد ونعود إلى عوالمنا القديمة؟ إننا نعلم أن العودة إلى الوراء مستحيلة حتى وإن زعم بعض الفيزيائيين في أيامنا هذه أنه في مقدور الإنسان أن يرجع القهقرى زمنيا لكي يتفرج على مشهد الانفجار الكبير الذي يكون قد حدث في بداية نشوء الكون. هل نتوقف عن مصارعة الجهل والجهلة ونذعن لهم إيثارا للسلامة والأمن؟ هما أمران كلاهما مر، وليس هناك حلو أو حلاوة فيهما أو بينهما. المشهد السياسي يتكرر في هذه الأرض التي تسمى عربية. سلوك محمد علي خلال القرن التاسع عشر هو نفس سلوك جمال عبد الناصر وهواري بومدين خلال القرن العشرين، بمعنى أن الرؤية السياسية تظل هي المسيطرة. ومن المعلوم أن السياسة عندما تسيطر وتكون المرجع الأول والأخير، تجدب أرض الفكر والعلم والأدب، ويستحيل أن نفخر بأصولنا وهويتنا وعلى سجيتنا ودون وازع من أحد. ألا ما أضيعنا وسط هذه الحدود التي تعددت فيما بيننا منذ جلاء الاستعمار الأوربي عن ديارنا! جار يطل على دار جاره، ولا يستطيع أن يصبحه ويمسيه بالكلام الحلو، وبالفكرة الجميلة، وبالكتاب وبالأسطوانة وبعشرات الأشياء التي تعطي للإنسان بعده الإنساني. تلكم هي حال العرب حتى وإن زعم قادتنا غير ذلك !