أسمح للغتي أن تتطاول على لغة سيبويه لأن واقعنا نحت أشكالا من المعاناة تجرّح الوجدان بينما لم ينحت اللغويون عندنا ما يساوي هذه الأشكال أو يعبّر عنها معنى ودلالة.. لنعترف بأن الدلالة أقوى في الواقع من اشتقاقات لغتنا العربية التي ربما لم يألف نحّاتها هذا الواقع الفتوح على المرارة والفظاعة والفضيحة أيضا..واقع يسكت الكلام ويخرس البيان ويجعل فهمك يحار في عجز أسلوبك وأسلوبك يضيق في أرض المعذّبين في أرضهم.. هذا الصباح الذي ساقني إلى حتف اللغة لم يكن يشبه صباحاتي، فما لقيصر لقيصر وما لله لله عندما يتعلّق الأمر بأن ترى أنك مجرّد هباء في ملكوت هؤلاء الأرباب الجدد الذين قرروا أن يفسدوا في الأرض وأن يجعلوا أعزتها أذلّة.. كنتُ أوجع روحي بأسئلة حيرى عن سرّ هذا الأسلوب في إدارة حياة الناس في كثير من القطاعات والذي يحيل حياتهم اليومية إلى قطعة من عذاب منذ الخروج الباكر من البيت إلى العودة مساء.. وصلتُ إلى يقين بأن المقصود هو إشاعة اليأس وأن تصبح معنويات الأمة إلى حضيض..لا أمل.. لا حلم..لا إلهام.. إشاعة اليأس معناه "تيئيس" الناس الغلابى من طريق الخلاص..من الغد..من نهار تشرق فيه الشمس.. التيئيس معناه أن يحصل المواطنة على درجة المواطن..أي درجة الإنسان..وأن يرمي جميع الناس بطوب التهم والفساد وأنه "مافيش حد أحسن من حد"..وأننا "نعرفو بعضنا بعض ما كلاّه الكذب".. ! لقد ولّدت هذه الحالة ظروف الحياة السيئة والصعبة والتي لا تعني قلّة الإمكانات، ومن اللافت أن ما يحدث اليوم وصل إلى مرحلة "التبئيس" أي إشاعة البؤس ومظاهره المعنوية والمادية والتي لا تعني قلّة الإمكانات أيضا.. التبئيس إضفاء حالة تداع رهيبة لقيم النظام وضوابط الحياة المدنية والقانون وما إلى ذلك.. تداع مطلق ولا سائل ولا منتقد ولا صوت يعلو.. هذا الصباح أضعتُ لغتي عندما رأيتُ بأم عيني حافلة أحد الخواص على الخط بين عين طاية وتافورة بالدشرة المسمّاة مجازا العاصمة، تنقل الناس وهي في حالة بائسة جدا وأكثر من ذلك أن "القابض" هو متشرّد في حالة من الوساخة والوضاعة لا توصف، ومع ذلك يركب الناس ويدفعون له ويتمسّحون بجلابيبه.. ! هذا الصباح أضعتُ لغتي في بلد مفتوح على كل شيء ويعبأ بكل شيء..إلاّ الإنسان.. ! ومع ذلك فإنها تدور.. !