يقال أنه يمكنك أن تكذب على الناس طول الوقت لكن لا يمكنك أن تكذب عليهم كل الوقت، فإدارة بوش الرهيب كانت لعنة كبيرة أصابت الإنسانية، وبلاء عظيما لا يختلف كثيرا عن المآسي التي عرفتها البشرية من حروب وأزمات وأوبئة تركت بصماتها على تاريخ الإنسانية. لقد بنت سياستها العدوانية على الكذب والبهتان لتبرير نزعتها إلى استعمال الحرب وخلخلة النظام في أمريكا لتجديده من الداخل عن طريق خلخلة العالم وإغراقه في ظروف الرعب والخوف والحراب. وقبل أن تغرب شمس بوش ومخططات المحافظين الجدد بدأت تنكشف سوءاتهم تباعا، ويظهر للأمريكيين والعالم بأسره كم كان بوش وزبانيته غريبا ورهيبا، إلى حدود يصعب عليهم تصورها أو تصديقها خاصة وأننا دخلنا الألفية الثالثة مع كل ما عرفه العالم من تطور في كل الجوانب خاصة الجوانب الإنسانية حيث ارتقت قيم السلم والأمن والحوار إلى مقدمة القناعات الدولية المشتركة بين مكونات المجتمع الدولي، وأصبحت إرثا وثقافة كونية يلتقي الجميع في الدفاع عنها كسبيل أفضل للتعايش بين الناس والذود عنها كقواسم مشتركة تجمع الإنسانية وتؤكد إنسانيتها. * وحدث ما لم يكن في الحسبان.. لم يكن أحد يتصور أن تعتمد إدارة أكبر دولة في العالم وأقواها، الكذب والعدوان والحروب ضد الدول والشعوب لتبرير سيناريوهات، وتنفيذ ترتيبات. كانت تلك التحليلات التي أشارت إلى ذلك تبدو من قبيل نسج الخيال، أو التطرف في انتقاد بوش وسياسته، أو المبالغة في أسوءِ الظروف. وفي الأخير بدأ يتأكد ما كان الجميع يخشى أن يكون حقيقة، الحرب على أفغانستان ثم العراق، وأبو غريب وغوانتانامو والسجون السرية، وإطلاق يد إسرائيل في المنطقة، واستعداء إيران والضغط على الدول العربية وابتزاز أنظمتها بالديمقراطية وتهديدها برفع الحماية عنها، إلى معاداة المقاومة وكل القوى المناهضة للاستسلام في المنطقة، كانت وقود حرب غير معلنة على المنطقة العربية بكل مضامينها الحضارية والمادية لإعادة ترتيب أوراقها وأوضاعها بما يخدم المعتقدات الدينية الإنجيلية اليهودية للمحافظين الجدد، فيما عُرف بالشرق الأوسط الجديد. كل المؤامرات والمبررات التي قدمتها أمريكا لم تضمن النجاح لمخططها، فلجأت إلى طرق إرهابية حقيقية وأكثر إجرامية ، عن طريق تدبير المؤامرات وتأجيج الفتن والنعرات، والاغتيالات تماما كما تفعل الأنظمة الدموية الديكتاتورية التي لا تتوان في التضحية بالصديق والشقيق إن كان ذلك يخدم مخططاتها. وإذا كانت أفغانستان والعراق وفلسطين الميادين التي اختارتها أمريكا لهزم الوعي العربي الإسلامي وقتل روح المقاومة، وإطفاء جذوة النهضة التي بدأت تنبعث من الشرق، فإن لبنان كان الساحة التي اختارتها لإدارة جرائمها المافياوية، وتدبير مكائدها المكملة للعدوان. "شارون وبوش" كانا خطرا على البشرية إن إلتقاء الثنائي بوش وشارون كان أسوأ ما يمكن أن يصيب البشرية من ألم ويحدق بها من مخاطر، فتاريخ شارون كاف ليؤكد أن وصوله إلى سدة الحكم يشكل خطرا داهما على العالم بأسره، في دولة هي أصلا جريمة في حق الإنسانية، هذا ناهيك عن نزعة الإجرام والاعتداء على القيم الكونية التين تتسم بهما. أما بوش فيكفي أن يقرأ المرء ما كتب جده عن الإسلام والمسلمين حتى يعرف موقف آل بوش وما يكنونه من حقد دفين للمنطقة العربية شكلا ومضمونا، دونما الحاجة إلى البحث في أغوار وحقيقة معتقدات المحافظين الجدد. فالتفجيرات التي شهدتها الساحة اللبنانية، والاغتيالات السياسية التي راح ضحيتها الخريري، وسمير قصير وغيرهم كانت إحدى التجليات البارزة للمنحى الإجرامي الذي نحته إدارة بوش للإسراع في تطبيق مخططها الذي بدا يتعثر وينذر بالفشل مع مرور الأيام. لقد قيل يومها أن إسرائيل والولايات المتحدة هما من يقفان وراء ما يحدث في لبنان، على اعتبار أنهما المستفيدان الوحيدان من عدم استقرار لبنان، لكن التيار كان جارفا والتنظيم كان خارقا لتوريط سوريا وإيران ومن ثم ضرب عدة عصافير بحجر واحد فلم يكن لذلك الطرح قوة الإقناع خاصة وأن بعض الأنظمة لعربية دعمت تصريحا أو تلميحا، التوجه القائل باتهام سورية بإيعاز وضغط من البيت الأبيض. * المقاومة في لبنان العقبة الكأداء الحريري كان الصيد السمين الذي ظفرت به إدارة بوش، لأنه كان يمثل الهدف الملائم، والأداة المثلى لاتهام سوريا وتوجيه الأحداث وتسريعها باتجاه ما تشتهيه المخططات الصهيونية الأمريكية، فالرجل يقدم على أنه أمريكي الهوى، سعودي التحالف، مناهض للوجود السوري وهذه أسباب كافية لأن توجه أصابع الاتهام بطريقة آلية إلى دمشق في حالة تعرضه إلى مكروه، فلم تتأخر أمريكا في تقديمه قربانا لسياستها وترتيباتها، فلا شيء يغلى أمام تمهيد الطريق لعودة المسيح التي لن تتأتى قبل التمكين لإسرائيل في الأرض كما تقول تعاليم المحافظين والكنيسة الأنجليكانية. وبالموزاة مع ذلك ارتأت أمريكا أن الوقت أصبح مناسبا لتوجيه الضربة القاضية للمنطقة واستكمال الترتيبات، بإزالة عقبة المقاومة في لبنان التي تحولت إلى رقم صعب يشوش على المسار. فشحنت المنطقة ضد حزب الله، وإيران. وقد كانت ناجحة في ذلك إلى أبعد الحدود، فلأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني بكل انتصاراته، على قلتها، وإخفاقاته، على كثرتها، تقف دولا عربيا إلى جانب إسرائيل وتؤيدها علنا في عدوانها على بلد عربي آخر وإن قُدم ذلك على غير هذا الوجه. الشرق الأوسط الجديد.. حَمْلٌ كاذِبْ ولم تخف أمريكا سعادتها بذلك فباعت جلد الدب قبل اصطياده كما يقول المثل، عندما سارعت كاتبة الدولة للخارجية الأمريكية إلى المنطقة لتبشر العالم بميلاد شرق أوسط جديد، ولم تكن كوندوليزا رايس تدري أن مولودها هذا كان مجرد حمل كاذب أو استنساخ غير شرعي تحرمه كل التعاليم والرسائل السماوية فأجهضته المقاومة اللبنانية. هنا بالضبط بدأ العد العكسي لفشل مشروع بوش الرهيب، وبدأت تنكشف السوءات، ولم يكن بمقدور العدوان الصهيوني على غزة ليستدرك الوضع او ينقذ ما يمكن إنقاذه بل كان وبالا على الجميع. ولم يكن لهذه التطورات أن تتضح بهذا الشكل الجلي لو لم تعترف المحكمة الجنائية الدولية بانعدام أدلة اتهام سوريا في اغتيال الحريري وإطلاق سراح الضباط المتهمين في ذلك، ولم يكن لأحد أن يصدق بأن إدارة بوش قد تقدم على عمل مشين وإجرامي ومهين للقيم والكرامة الإنسانية، لو لم يشهد شاهد من أهلها. تصريحات الصحفي الأمريكي المعروف واين ماديسن، حول نتائج ما توصل إليه زميله المختص في قضايا الشرق الأوسط سيمون هيرش حول تورط الثنائي ديك تشيني شارون في عملية اغتيال الحريري أخرست الألسن، وأفجعت كل من لم يكن يتصور أن تهبط أمريكا إلى هذا الدرك الأسفل من الجريمة. لقد سقطت كل الأقنعة، وبدأت أمريكا تكشف أخطاءها لإعادة تحسين صورتها وقد تنجح في ذلك لأنها دول تحكمها المؤسسات، وبإمكانها أن تتنصل من مسؤولياتها بتقديم كباش فداء بحجة أن تلك الجرائم لم تكن سياسة دولة وإنما تجاوزات أفراد، واختيار أوباما يدخل في أحد أبعاده في هذا الإطار بالذات. كما أنه بمقدور تشيني أن يدعي أنه كان يتصرف كذلك خدمة لوطنه وفق ما تقتضيه المصلحة الوطنية العليا وقد يصدقه الأمريكيون وقد يتعاطفون معه. المشكلة كل المشكلة في هذه الأنظمة العربية التي كرست نفسها في خدمة هذه المخططات التي بدأت أمريكا تتنصل منها، وتتجه نحو محوها بكشف المسؤولين تبرئة للمؤسسات والتقرب ممن اتخذهم بوش أعداء كإيران وسوريا للتخفيف من وطأة الماضي وحدة العدوان. فلسوء حظ هذه الأنظمة أنها مدانة مسؤولين ومؤسسات لأنها لا تعرف الفرق بين مسؤوليها ومؤسساتها ولا يمكنها أن تقدم كباش فداء لأنها متورطة كأنظمة مرتبطة بالأشخاص ولا تعرف التغيير ولا التداول على السلطة، إنها مدانة أمام شعوبها، وأمام التاريخ بالتآمر والتورط ضد المصالح العليا لدولها، وضد مصالح الأمة القومية والدينية، وقضاياها المصيرية، فأين المفر؟.