تستهل فضيلة الفاروق روايتها الجديدة "أقاليم الخوف" الصادرة عن دار الريس 2010، بعبارة دالة هي"لا أحد يعرف الشرق كما أعرفه أنا".. ليأتي متن الرواية تصديقا لذلك ورصدا دقيقا لتضاريس وملامح هذا الشرق الخرافي المراوح في أقاليم الرعب، المنغلق والخائف من كل التيارات الجديدة التي تهب عليه من جهات العالم الأربع.. بريشة الرسام المتمرس، ترسم فضيلة الفاروق مشهديات لاذعة ومفزعة لشرق التناقضات والرياء والمظاهر الزائفة للتدين المغشوش البعيد عن الجوهر الحق للدين.. من خلال مشاهدات امرأة عاشت في خضمّ هذا الشرق وعانت من جراء ذلك ما عانت.. لتقدم لنا في النهاية لحظات تعبير قوية ومؤثرة عن جرائم الإنسان في حق الإنسان والإنسانية، وفي حق التاريخ. وأي صورة أبلغ من صورة "نوا" المسيحي وهو يدافع عن فتاة مسلمة في كوسوفو، أو صورة الأستاذ "متوكل" وهو يغتصب تلميذته المحجّبة في ملجأ في حرب بيروت، ليلقى جزاء ذلك بشكل تراجيدي.. أو مشهد "زاهدة" في إسلام آباد التي يفقأ زوجها عينها، وتحاكم بطريقة ظالمة لمجرد شك زوجها في خيانتها، إذ يطلب القاضي شهودا لإثبات براءتها، ولا يطلب شهودا لإثبات تهمتها، أو مشهد استنطاق محمد لمارغريت في بغداد الذي ينتهي بممارسة جنسية سادية ولذيذة في الآن ذاته. في كل أقاليم الشرق المرعبة، تظل المرأة هي الضحيّة الأولى والأسهل، لكل جرائم الثالوث العربي المدنّس: الدين والجنس والسياسة.."الشرق الذي لا فرق بينه وبين مغارة "على بابا والأربعون حرامي"، شرق السبايا والحريم والغنائم النسائية، شرق الموت، والخوف الذي يرقص في الشوارع، شرق الجرائم التي ترتكب باسم الله، وشرق الصمت، وليد الخوف واختلاس الحياة اختلاسا، شرق الأقنعة التي تخفي الملامح والحقائق..". ما يصنع استثنائية رواية "أقاليم الخوف" من بين عناصر كثيرة، يطول تعدادها، هو اعتمادها على الحبكة البوليسية المعقدة والمتشابكة العناصر والأطراف والتي تحتاج إلى كاتب متمرّس قادر على نسج خيوط الأحداث وترابطها المدروس. ذلك أن بطلة الرواية مارغريت التي تبدو في البداية مجرد زوجة لإياد، الذي يعود بها من أمريكا إلى بيروت، ليعيشا معا في وسط عائلة آل منصور بتجاذباتها وتناقضاتها، والتي تنتهي بانفصالهما بعد حصولها على إرث والدها، لتعود إلى الإرتباط بصديقها الصحافي "نوا"، الذي يختفي في ظروف غامضة ثم يغتال في إحدى سفراته، لتنتقل هي إلى بغداد للبحث عنه بمساعدة صديقه المصور"ميتس" الذي سرعان ما يغتال هو الآخر، لينتهي مصير مارغريت إلى أحد مراكز الاعتقال ببغداد.. لتبدأ حكايتها مع محمد الجلاد الحميم.. لنكتشف في نهاية الرواية بأن "مارغريت نديم نصر" هي مجرد ابنة بالتبني لنديم نصر الذي كان يتاجر في الأطفال، وبأنها كانت مجنّدة في "منظمة النسور السوداء"، وكانت مكلفة بمهمة سرية لقمع مشاريع النهضة في الشرق الأوسط، كما أنها كانت عنصرا فعّالا في مشروع "حقول البذور الذكيّة" الذي نجح في بيروت ولم ينجح في بغداد وكان سفرها إلى بغداد للبحث عن صديقها الصحافي مجرد ذريعة للتحقيق في فشل ذات المشروع في بغداد، ليتبين لها أن البروفيسور"شنيدر"، المكلف به حوّله إلى مشروع تجاري.. وقد وظّفتْ الجميع لتنفيذ مهمتها السرية دون وعي منهم، بمن فيهم زوجها إياد، عالم الطاقة النووية، الذي لم يكن يعلم أن له أكثر من عشرين ولدا سيكونون في المستقبل عقولا أمريكية.. لأن نطافه كان يزرع في أرحام نساء أجنبيات.. إياد الذي تخلت عنه بعدما أصبح غير قادر على الإنتاج لأنها كانت تدسّ له عقّار مسح الذاكرة في القهوة.. في أقاليم الخوف يخيّل إلي أنني قرأت رواية مختلفة عن عوالم الروائيات العربيات اللائي عادة ما يملن إلى الفضاءات الرومانسية والتداعيات الحميمة الناعمة التي صارت مملة بفعل تكرارها، إذ تقتحم بجسارة كبيرة وبروح الكاتبة المغامرة عوالم ظلت حكرا على الكتّاب من الرجال، بما يشكل فتحا روائيا محمودا، فضلا عن أنها تقدم لنا، نموذج المرأة القادرة على الفعل والتأثير في مجريات التاريخ والتي تصنع مصيرها بإرادتها بخلاف ما تعودنا عليه من صور المرأة الخانعة المستسلمة لقدر يصنعه الرجل.