عرفت الجزائر، منذ سنوات طويلة، ظاهرة انتشار الأشخاص المصابين بالأمراض العقلية في كل مكان، حتى أصبحت لا تخلو منهم المنشآت الكبرى، كالمستشفيات والمساجد والجسور وحتى الهيئات الرسمية من جهة أخرى، فقد عرفت الجزائر عجزا ملحوظا في المراكز الاجتماعية المتخصصة في استقبال هذه الفئة من المجتمع الذي أصبح يرفضهم جملة وتفصيلا.. كون هذه الفئة أصبحت تسبب لهم المشاكل و القلق، وفي بعض الأحيان الاعتداءات التي تطال المارة خاصة فئة الإناث. أثناء قيامنا بهذا الروبورتاج الذي أخذنا بكل جوانبه الجرح العميق الذي مس المجتمع الجزائري، التقينا بالشاب “جمال.ع”، الذي عرفنا عليه أحد الباعة بالعاصمة. يقول ذات المتحدث إنه “كان يدرس بجامعة الجزائر وكان كل مساء يأتي إلى هذا المكان و يجلس معي نتبادل أطراف الحديث إلى درجة أنه علمني بعض العلوم التي بفضلها أصبحت أتناقش مع الناس في جميع الأمور العلمية و الثقافية”. وعن سبب الحالة التي أصبح عليها هذا الشاب، يقول محدثنا إنه في عام 1993 تم اختطافه من طرف جماعة إرهابية عندما كان في طريقه إلى أهله بولاية سعيدة، وبعد 41 يوما من تاريخ الاختطاف استطاع أن يتخلص من قيده ويفر منهم، ومنذ ذلك الحين وهو لا يكلم أحدا على الإطلاق، تجده جالسا بمفرده أو يكلم نفسه، وفي بعض الأحيان تجده واقفا وسط الطريق ينظم حركة المرور.. وتارة يأتي إلي ويطلب مني أن أحمل ورقة فيملي علي بعض العبارات باللغة الإنجليزية.. وهذه هي حياة جمال التي لم تلق المساعدة من طرف مسؤولي الحماية الإجتماعية التي اتصلت بها مرارا ليأخذوا جمال إلى المصلحة الإستشفائية للأمراض العقلية”. واقتربت “الفجر” من السيدة “سامية.س”، 44 سنة، أستاذة ثانوي بالعاصمة، فصرحت أن سبب هذه الحالات النفسية يعود غالبا إلى الجو الأسري الذي يعيش فيه المريض وطرق التكفل الأنجع بحالته الصحية كثيرة.. صحيح أن الرقية علاج شرعي لكن المريض المصاب باضطرابات نفسية وعقلية لا تؤخذ حالته بهذا العلاج مائة بالمائة، بل هناك ما يسمى بالطبيب الكيمياوي، فالدواء والمهدئات هي السبيل الوحيد لمعالجة مثل هذه الأزمات. تضيف ذات المتحدثة بقولها أن من بين هذه الأسباب التي تحدث انفجار مكتوما داخل المريض، هو التقصير في التكفل الأسري الأمثل بالمريض والعلاج الذي يمكنه أن يتلقاه ليمتثل للشفاء ولو بالقسط المتوسط، ففي بعض الأحيان يصبح هذا المريض مدمنا على بعض العقاقير المخدرة التي سكنت دمه وأصبحت جزءا منه، وهذا راجع إلى سببين لا ثالث لهما، السبب الأول قلة الإمكانيات التي تتوفر عليها العائلة، والسبب الثاني أن تريد العائلة التخلص من الملل والاضطرابات التي تعيشها مع المريض وذلك بإعطائه الأدوية المهدئة. ولفت انتباهنا، ونحن نجول في بعض الأماكن التي تعودنا مصادفة هؤلاء المغلوب على أمرهم فيها، أحد المواطنين المصابين وهو في حالة هيجان، قد قام بتمزيق كل ملابسه وبدأ يمشي بدونها أمام مرأى الجميع، وعندما حاول دخول السوق منعه أصحاب المحلات المجاورة وتم إبلاغ رجال الأمن الذين أخذوه بعدما لفوه برداء رمت به إحدى السيدات من شرفتها.. من جهة ثانية أردنا أن نسلط الضوء أكثر على هذه الحالات، فلم نجد أحدا يقص علينا الوقائع مثل أصحاب المحلات الذين شهدوا كثيرا مثل هذه الظواهر.. يقول أحد التجار بالعاصمة، عمي رابح 83 سنة، صاحب مكتبة، إن الشيء الذي حيره ولم يعرف لحد اليوم سببا مقنعا لمثل هذه التصرفات أنه في كل مرة يزور فيها رئيس دولة الجزائر تقوم بعض الجهات بجمع هؤلاء المتخلفين عقليا وأخذهم إلى جهات مجهولة لا يعرفها أحد، لكن بمجرد ما تنتهي زيارة الوفد الرئاسي بعد يوم أو أقل من يوم تعود فيها هذه الحشود من المتشردين و”الطلابين” وأصحاب الأمراض العقلية إلى الواجهة.. اللهم أعطينا الصبر والعقل“.. يقول عمي رابح، فبمجرد عودتهم تجد كل الأماكن التي تكثر فيها الحركة حطوا فيها رحالهم ومتاعهم المتكون من الأغطية والأفرشة الأواني المخصصة للأكل.. إنه ديكور مؤسف ساهمت في تصميمه الجهات المعنية التي تخلت عن مسؤليتها، وهي الصورة المشوهة للجزائر البيضاء. يضيف عمي علي:” إنني لا أقصد هؤلاء المساكين.. حديثي كله موجه إلى أولئك الذين يتربعون على كراسي فاخرة وكأنهم لا يعلمون ما يدور خارج مكاتبهم”، ويضيف أن من بين هؤلاء المساكين من يحترف البحث داخل القمامات والبعض الآخر ينظم حركة المرور وهذه الفئة لاخوف منها أبدا، إلا أن هناك فئة من هؤلاء المرضى من يزرعون الرعب وسط المواطنين بالاعتداء عليهم وحتى الضرب في غالب الأحيان. وقد روى أحد المواطنين ل”الفجر” جريمة قتل راح ضحيتها تاجر إثر هجوم وحشي تعرض إليه من طرف أحد المصابين بمرض عقلي، حيث قام هذا الأخير بمباغتة الضحية وهو يتأهب لفتح دكانه مع طلوع الفجر بواسطة أداة حادة وراح يغرزها بكل ما أوتي من قوة إلى أن لفظ آخر أنفاسه. من جهته أدلى مواطن آخر أن هناك جريمة قتل بشعة وقعت منذ سنوات قليلة، حيث أقدم مواطن مصاب بمرض عقلي على قتل والده بواسطة سكين.. الحادثة هذه تركت أثرا عميقا في نفوس سكان بلدية الكاليتوس بالعاصمة. معظم أسباب الاضطرابات النفسية بسبب العشرية السوداء كثيرا ما نسمع أن مواطنا مصاب بمرض عقلي لقي حتفه إثر حادث مرور أليم، فقيام هذه الفئة بقطع الطريق السريع إلى الجهة الأخرى قد تتسبب في حدوث حوادث مرورية خطيرة سواء لسائق المركبة أو لقاطع الطريق.. حيث سجلت مصالح الدرك والأمن عدة حوادث مرورية خطيرة راح ضحيتها مواطنون أبرياء من فئة المرضى عقليا. وحسب أحد أعوان الدرك الوطني من فصيلة سرية أمن الطرقات، فمعظم الحوادث المسجلة تمت في جنح الظلام. وفي ذات السياق فقد انتقد أحد المواطنين سياسة المسؤولين المحليين الذين انشغلوا عن الرعية، وتلك الجمعيات الخيرية التي أصبحت لا تعمل إلا في المناسبات..! ويضيف أن غالبية هذه الجمعيات تهتم بجمع الأموال لتسيير مصالحها الخاصة وتعليم أعضائها الجدد حرفة التسول في المؤسسات وأسواق الجملة..