لا يمكن اعتبار فلاديمير بوتين أستاذا فذا في الديمقراطية، نشأته لا تسعفه، ولد في بلاد لينين وكبر في ظل ورثته، لم يتدرج في صفوف حزب المحافظين البريطاني، جاء من الحزب الشيوعي السوفياتي، جاء تحديدا من ال ”كي جي بي”، هذا يعني أن اسم معلمه الفعلي يوري أندروبوف. وحين كان جدار برلين يستعد للتقاعد كان الرجل مجرد كولونيل يرسل تقاريره السرية من برلين. قبل أربع سنوات واجه الرئيس بوتين مشكلة شائكة، انتهت ولايته الثانية في مكتب جوزيف ستالين، والدستور يقول إن عليه أن يغادر وليس سهلا على روسي أن يتنازل عن لقب سيد الكرملين. وكان لديه من الشعبية ما يؤهله لتعديل الدستور وتمديد إقامته، اتخذ قرارا جريئا بالانحناء لإرادة الدستور، أنقذ صورته وصورة بلاده معا. لجأ بوتين الى مجازفة ديموقراطية غير مسبوقة، وضع شعبيته في خدمة رفيقه ديمتري مدفيديف، نصبه رئيسا لروسيا عبر صناديق الاقتراع واختار الانتظار في منصب رئاسة الوزراء. قبل الرجل الأول بمقعد الرجل الثاني على رغم الهالة التي تحيط به بفعل دوره في منع تفكك الاتحاد الروسي بعد انتحار الاتحاد السوفياتي، كأنه أراد امتحان شعبيته وقدرته وحاجة البلد إليه. في رئاسة الوزراء، حرص بوتين على إبقاء صلاته بالروسي العادي، تولى تلميع صورته، رجل قرار صارم ومحاور، رمز للشباب الذي تستهويه المخاطرة ومواجهة الصعاب، ركوب الخيل وقيادة سريعة للسيارة وغطس وصور على مقربة من الوحوش البرية، وأعطت اللعبة نتائجها. لم يكن أمام مدفيديف أمس غير ترشيح بوتين مجددا للرئاسة فرد الأخير له الجميل بترشيحه لرئاسة الحكومة إذا أكدت صناديق الاقتراع صدق حساباتهما. واضح أن بوتين لا يكره السلطة، يمكن القول إنه مولع بها، وليس في هذا العشق ما يعيب، لكن الرجل تصرف حين غادر الكرملين انطلاقا من إدراكه أن العالم تغير وأن الروسي نفسه تغير ولم يعد مستعدا للعيش الى الأبد في ظل قيصر يمدد لنفسه، ثم إن الإقامة المتواصلة في قصر الرئاسة تستنزف رصيد ساكنه وصبر المواطنين حتى ولو كان في استطاعة سيد القصر الحديث عن إنجازات. تنتابني أحيانا أفكار غريبة ومتأخرة.. كم كان جميلا مثلا لو تفادى زين العابدين بن علي ولايته الأخيرة وسلم ”الأمانة” لرجل أقل استفزازا لشعبه. لو أن حسني مبارك نأى بنفسه عن القصر وحلم التوريث قبل ولايته الأخيرة. لو أن القذافي سلم البلاد ل ”الجرذان” بدلا من الانهماك بمحاولة قتلهم. لو أن علي عبد الله صالح وقع المبادرة الخليجية لحظة ولادتها.. لو أن الرئيس بشار الأسد أعلن في زيارته الأولى لمجلس الشعب بعد اندلاع الاحتجاجات عن تقاعد المادة الثامنة من الدستور وتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة شخصية غير حزبية، لو حدث كل ذلك لوفرنا أنهارا من الدم وغابات من النعوش وتصدعات في الوحدة الوطنية. يخطئ الحاكم حين يصر على إنكار أن العالم تغير وحين يصدق تقارير المستفيدين والمتملقين ومعلقات المستشارين أمام نذر الزلازل لابد من قرارات شجاعة ومؤلمة. انقضى الزمن الذي كانت الشرعية فيه تستعار من جنازير الدبابات، الزمن الذي كان احتقار الدستور فيه ممكنا. الزمن الذي لا يخرج فيه الرئيس من القصر إلا حين يستدعيه القبر. أفكر في الرئيس اليمني، صحيح أن العنف في بلاده ليس من اختراعه والفساد كذلك. لكن الصحيح أيضا أن الإقامة الطويلة راكمت أخطاء وعداوات وانقسامات وأن الرئيس لم يعد قادرا على إعادة الاستقرار بعد الاحتجاجات والصدامات والتصدعات. حان وقت توقيع المبادرة الخليجية، كل تأخير باهظ للبلاد والرئيس والمنطقة. بوتين ليس أستاذا في الديموقراطية، يحبها قوية وذات أنياب، لكنه يحترم قواعد اللعبة، المهل وكلمة الصناديق، تعلموا من القيصر.