لسنوات مديدة ، والآذان ملأى بروايات الحكم الراشد الذي أنْعم الموْلى تعالى به على هذه الشعوب،لا اسْتحْقاقا منهاولا حبًّا فيها، ولكن وجاهةً لِمَن حَكَّمهم سبحانه في أمْرها، حُكّاما ما شاء الله، جمالا وبهاء وذكاء، وإنْ لم تقُل فيهم ما قالت النّصارى في نبيِّهم ،فامْدح ما شئْت ولا حرَج. ودارت الأيّام، وأصاب الشعوب الدُوار، لا لشيْء إلاّ لأنّهم ربّما تناولوا بمقادير فاقت ما قدَّره لها الحكّام من مُهلْوِسات، فثاروا بغيْر وجه حقّ، يعضُّون الأنامل الرقيقة التي أطْعمتْهم، والأكُفّ الندِيّة التي ربّتْهم فصدق فيهم قول القائل “إتَّق شرّ من أحْسنت إليه”. ما كان لهذه الشعوب أن تثو، فقُراهم عامِرة، ودُورُهم ملْأى، أبْناء يتنعَّمون، وفي الجامعات يتعلَّمون، وإذا مرِضوا يُشْفوْن، وإذا قُتِلوا أو ماتوا يُقْبرون، فأنَّى لهم يتذمَّرون، وبأيِّ آلاءِ حكّامهم يُكذِّبون، ألا ساء ما يزِرون، إنّهم لقليلو حمْد وناكِرو فضْل. سيحْكي التاريخ أنّهم عاشوا كذلك من مُحيط إلى خليج، حتى إذا أهلَّ صباح يوم مُظلم، لبِس أحد الغوْغاء أسْماله، وجرّ عربة، وخرَج على ريقه يكْدح، في مدينة لم يكن يُسْمع لها ذكْر، في دولة طالما حكَمها جبَّار، إسْتحْوذ وأهْلوه وبِطانته على خيْرات البلد، فلم يتْرك لهذا الشاب الفقير الجامعي إلا بيْع خِضار ذابِلة، يزْدرد بدخْلها ومن يعُول خبْز ذلّ. سيذْكر الرُوّاة أنّ الشاب ألِف فيما ألِف طأطأة الرّأس، فحين وُلِد إخْتلط الآذان في أذْنه بإسْم الحّاكم، رافَقه الإسْم ذا غُلاما، فَشابا، بل رافَق أباه، وربّما جدّه، حتى خُيِّل إليه في أناه الأعْمق ،أنّ ها الحاكم والقدَر سيَّان، ولولا ما رُبِّي عليه من إسلام لاعْتقَد أكْفر من ذلك. ظلّ الشاب على هذا المنْوال دهْرا،ينْهض صباحا، يتحايَل على الظُّلم، نعم، يُقاوِمه،لا، يتعايَش على مضَضٍ معه، نعم، يُصارعه، أبدا، فهو والظُّلْم توْأمان، بل الظلم توأمه الذي وُلِد مع أباه. لكن يوْمها لم يكن الأمْر كذلك، لا يدْري ما الذي حدَث، نظَر شمالا لم يَرَ إلاّ حاكما جائرا وزبانيّته، نظر يمينا فرأى أفْواها شرَّعا تنْتظر عودته برغيف خبز بلّلته دموع ذل، في زمن تُرمى الكلاب بقطع الضأن في قصور الحاكم، نظر خلْفه فرأى بحْر لُجِيّ تتقاذف أمواجه جُثَث أحباب، وتتلقّف ضفافه مِمّن نجوْا أشباحا بِلا أرواح. عاد إلى البيت ولعلّه لم يَعُد، واكْتفى بأنْ إشْترى ببضع دنانير رءاها أثْمن من حياته ما تيسّر من بنْزين، ورَحل من عالم ظالم جائر، لا يرْعى للحياة أمانا. لا شكّ أنّه فكّر في أدوات كثيرة يمْتطيها في رحيله، رصاصة، سكِّين، تردِّي من علٍ ،ولكن كلّ تلك لا تضْمن الرمزيّة التي يُريدها، والتي لن تُعبِّر عنها إلا قطرات نفْط، لأنّه ومن فعلوا فعْله ينْتمون لأمّة تنام على حوْض بنْزين. فعَلها الشاب ورحَل، وحين فعَلها لم يكن يدْري أنّه بذلك كان كمَن قال “ومن بعْديَ النّيران” فدَكَّت فرْقعتها عروشا ظُنَّ رسوخها فاذا هي كمثل شجرة خبيثة أجْتثّت من فوق الأرْض ما لها من قرار. عروشا ما كان لها حتى أنْ تكون، وإذْ كانت جَهِل أصحابها حتى متى أو كيف ينْسحِبون. يتبع [email protected]