ما يثير الاستغراب والدهشة، في سياسة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي وعد بوقف الحروب في كلّ منطقة عبر استغلال منهجيته الجديدة وكاريزمية رجل الصفقات والواقعية العملية، أنه بات يجسّد حالةً من التناقض الصارخ، فهو أكثر تفاهماً (وقرباً) مع القوي، ومن الذي يملك السلاح والترسانة النووية. ففي الأزمة بن روسياوأوكرانيا، ضغط ترامب على كييف، وحصل على موافقتها مبدئياً على وقفٍ غير مشروط لإطلاق النار 30 يوماً، رغم الصعوبات التي تتخلّل المباحثات الروسية، منذ انطلقت في الرياض، فقد استغرقت تلك المباحثات (في جولة واحدة) أكثر من 12 ساعة، غداة جولة أولى من المباحثات بين الأميركيين والأوكرانيين، وأكّد ترامب بوضوح أنه يسعى إلى إنهاء الحرب، خاصّةً في ظلّ تقاربه مع فلاديمير بوتين، ما أزعج الأوروبيين. وربّما مالت كفّة ترامب ومشاعره صوب موسكو، ما يرجّح الإحياء السريع لاتفاق البحر الأسود. التكامل الاقتصادي والأمني بين إسرائيل والدول العربية، بناءً على اتفاقات أبراهام، هو ما يُشكّل عند ترامب البديل الواقعي من خطاب سياسي "طوباوي" مثل "حلّ الدولتَين" قد تقف وراء الموقف الأميركي المنتصر ضمنياً لبوتين عوامل كثيرة، منها، على وجه الخصوص، امتلاك موسكو ترسانةً نووية ضخمة. وفي هذا السياق، اعتبر المحلّل السياسي والعسكري، الكاتب في شؤون الأمن القومي، براندون وانكيرت، في تقرير نشرته مجلة ذا ناشونال إنترست الأميركية، أن ترسانة الأسلحة النووية الروسية ليست الأكبر في العالم فحسب، بل الأكثر تقدّماً. ويلتقي عدة خبراء في تقييم يكاد يكون موحّداً، فيقرّون أن الروس صنعوا سلاحاً نووياً متطوّراً ومرعباً، له قوّة تدميرية خارقة، يتمثّل في صاروخ آر إس 28 سارمات، الذي أعلنه بوتين في 2018، وهو مركز الثقل في الاستراتيجية النووية الروسية، ومداه 12 ألف ميل، ما يتيح له ضرب أهداف في أيّ مكان في سطح الأرض، والصاروخ الواحد من هذه الفصيلة يمكنه أن يحمل عشرة أطنان من الرؤوس الحربية، وعدة رؤوس إضافية ذات قوة تفجيرية، تتجاوز ما يعادل عشرة ملايين طنّ من مادّة "تي أن تي". دخل هذا الصاروخ، الذي يلّقب بالشيطان، في الترسانة النووية الروسية سنة 2022. وهذا ربّما يبرّر إمكانية استخلاص تفاهم مشترك بين روسيا وأميركا بشأن التوصّل إلى تسوية لإنهاء الحرب في أوكرانيا. عبّر المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف عن تفاؤله بشأن فرص أنهاء أعنف صراع في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. وقال لشبكة فوكس نيوز إنه يشعر أن الرئيس بوتين "يريد السلام". وأنه بعد وقف إطلاق النار في البحر الأسود وعلى السفن بين البلدَين (روسياوأوكرانيا) "ستتقدّم الأمور بشكل طبيعي نحو وقف شامل للحرب". ستيف ويتكوف هو المبعوث نفسه الذي أوفده ترامب، وكلّفه عرض رؤيته إلى الشرق الأوسط. وهي تتأسّس على العامل الاقتصادي مدخلاً حيوياً لضمان الأمن والاستقرار، وهنا لا يعير ترامب كبير اهتمام للمبادئ والشعارات والقرارات عن حلّ الدولتَين، أو مسلسل السلام. يرى ترامب أن التكامل الاقتصادي والأمني بين إسرائيل والدول العربية، بناءً على اتفاقات أبراهام، هو ما يُشكّل البديل الواقعي من خطاب سياسي طالما انتصر للطوباوية والمثالية مثل "حلّ الدولتَين". وتأسيساً على هذه الرؤية، التي نقلها ويتكوف، يتحوّل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، من صراع سياسي وجودي إلى مشروع اقتصادي وأمني، تتحوّل في إطاره إسرائيل شريكاً لا يمكن الاستغناء عنه. ينمّ أسلوب ترامب في مقاربة الأزمات في العالم عن تجاهل متعمّد للقواعد المعمول بها، واعتادت الدبلوماسية الأميركية اعتمادها في معالجتها الأزمات، لكنّ ترامب يرى أن هذه المقاربة أصبحت اليوم عقيمةً، لأنها لم تفضِ إلى نتائجَ ملموسة. فما يهمّه هو الاهتمام ب"العناصر الجوهرية"، التي تمثّل برأيه أصل النزاعات، متجاوزاً في ذلك ما يصفه بالبيروقراطية الدبلوماسية. فهو لا يريد (وفق أنصاره ومنظّريه) أنصاف الحلول، ولا تسويات هشّة، وبناء على ما يصرّح به ويتكوف، فإن ترامب غير معني بأيّ مسار لا يعالج جذر الأزمة بشكلٍ واضح. وهو في هذه الحالة مستعدّ للذهاب إلى أقصى حدّ في المواجهة لتحقيق أجندته، طبعاً وفق شروطه، ويرى ويتكوف صراحةً أن الصراع في غزّة قابلٌ للتسوية والاحتواء، من خلال آلية الحوار والتفاوض، إذا ما أفضيا إلى تفكيك قدرات "حماس" العسكرية. يرى ترامب أن مقاربات الدبلوماسية الأميركية السابقة لشؤون العالم أصبحت عقيمةً، لأنها لم تفضِ إلى نتائج ملموسة من هنا، يُلاحظ أن ترامب يتعامل بمنطق الكيل بمكيالين في تدبير الأزمات الدولية، ففي الأزمة الروسية الأوكرانية، أظهر مبعوثه ويتكوف حماسةً منقطعة النظير لتحقيق تقدّم سريع في مسار التسوية، ولم يخفِ اعترافه الصريح بسيطرة روسيّة لا غبار عليها، كما أثنى ويتكوف على شخصية بوتين، وكشف استعداد ترامب للانتقال من المواجهة إلى التعاون مع روسيا، إذا حُلّ النزاع في أوكرانيا خدمةً للمصالح المشتركة، متجاوزاً بذلك الحرب الأيديولوجية الكلاسيكية والمقاربات المثالية. وتعي روسيا جيّداً أن عليها استغلال الرغبة التي عبّر عنها ترامب قصد التوصّل إلى اتفاق سلام في أوكرانيا، بهدف تحقيق أكبر قدر من المكاسب، كما ترى في تحسّن العلاقات مع واشنطن مكسباً اقتصادياً وجيوسياسياً، خاصّة أن هناك توجّهاً لتطوير العلاقات الثنائية بين البلدَين، وتذويب أيّ جليد يحول دون تقاربٍ بين ترامب وبوتين. وكما صرّح نائب رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الروسي، فياتشيسلاف نيكونوف، فإن العلاقات مع أميركا (بالنسبة إلى بوتين) أكثر أهميةً من أوكرانيا وحدها، خاصّة مطلبه المتمثّل في تقليص وجود حلف شمال الأطلسي (ناتو) في أوروبا، وضمان عدم انضمام أوكرانيا بشكل قطعي إلى الحلف، وتقليص دور التحالف الغربي في أوروبا الوسطى والشرقية، وفرض قيود على الجيش الأوكراني. وقد تؤدّي سرعة التقاط موسكو مصالح ترامب ومقاصده، والتفاعل معه بإيجابية من دون تأخّر أو تباطؤ، إلى صياغة خريطة جديدة في المنطقة تؤسّس أرضية تعايش ووفاق بين روسيا والولايات المتحدة و"ناتو"، من دون أن تتضرّر مصلحة أيّ طرف. سعى ترامب منذ وصوله إلى البيت الأبيض (في يناير 2025) إلى تجسيد الدولة والأمّة في شخصه، وهو آلة صناعة القرارات الفورية والقطعية، وهو كلّ شيء، وله الجرأة في أن يواجه ويعاقب ويقيل ويهدّد ويستفزّ، رجل صفقات ومصالح مباشرة لا لفّ فيها ولا دوران. لذلك، فإن العالم الذي يتشكّل الآن بإيقاع فائق السرعة، يطرح حزمةً من التحدّيات الأساسية والخطيرة، تستدعي اعتماد رؤية واقعية جديدة للحدّ من اندفاع ترامب الجامح، وتطويق أحلامه الإمبراطورية التوسّعية. العربي الجديد