كانت أبْيات لامِيَّة العرب، للشاعر الجاهلي”الشّنْفرَى الأزْدِي” كلّها جميلة، غيْر أنّ أجْمل ما فيها عجز بيْت يُظْهر الشاعرُ فيه مَناقبَه، فيفْتخر أنّه إذا هَمَّ بالصّيْد، أنِفَت نفْسه أنْتصْطاد ذيْل القطِيع، الذي في العادة لا يشْمل إلاّ الضِّعاف، وتاقَت إلى مُناورة رأس القطيع، وكلّ أبِيٍّ باسلٍ، “غيْر أنِّيإذا عَرضْت أُولَى الطرائدُ أبْسلُ”. وكذلك شِرَافُ القوْم، تتَجافى جُنوبُهم عن مضاجِع السَّفاهة، لتُطاوِل أعْناقهم نُجوم التَّميُّز، فيرْبأُون بأنْفسهم عن الحلول السَّهْلة الرَّخيصة التي لا تسْتلْزم جهْدا ولا قوّة، فهي في متناول الذكي والغبي والضعيف والقوي على حد سواء. ولعلّ الشيْء الذي يَصِحُّ في حقِّ الأفْراد، ليس ببعيد صلاحُه بِشأن الحكومات والدُوَّل، لا سِيّما في عصْرنا هذا، الموْسوم بنُدْرة الوسائل، وجَسامة المطالب. غيْر أنّ تلْبيَّة المطالب في ظلّ النّدْرة ،هو ما لا شكّ، ما يُميِّز الجهْد والذّكاء المْبذوليْن، ويُوسِم حُلُولا بوِسام الرّشاد، ويُصْبِغ على غيرْها صِبْغة حُلول ذَوي النِّعْمة المُتْرفين، لا غير. لا يختلف اثْنان في أنَّه ليْست هناك في العالم أزمَة مسْتعْصيّة، بلْ لكلّ أزمة حُلولها، غير أنّ من الحُلول ما لا يُمْكن تصْنيفه إلاّ ضمْن الحلول الرّخيصة أو المُبْتَذَلة، التي لا يلْجأ إليْها إلاّ كلّ ضعيف هِمَّة فاتِر الإرادة، مبتورها. للبرهان على صحة القول هذا، فإنّ المُعْضِلة الفلسْطينيّة على جسامتها، يُمْكن حلُّها أو قُلْ وَأْدها بِتنازُل الطَرف الفلسْطيني عن فلسطين، والعياذ بالله . إنَّنا إذْ نُورِد المُعْضِلة هذه، فإنّنا نُوردها لا لأنّها من صُلْب موضوعنا، ولكن فقط لِنُثير تَقزُّز القارئ اتِّجاه كلِّ حلٍّ رخيصٍ، يُتشدَّق بِبَذْله في حلٍّ جُزْئِيٍّ لبعْض الأزمات الكبيرة في أعْيُن الصِّغار. منْ ذلك مثلا ما تعْمُد إليه السُلَط في بلَدنا من إدْماج أراضي فلاحيّة ذات جودة عاليّة في المحيطات العمْرانيّة، وتخْصيصها للبناء، من أجْل حلّ أزمة ،خيِّل لأصْحاب الرَّبْط فيها، أنّه لا يُمْكن حلّها إلاّ بالحُكْم على الأجْيال اللاّحِقة بالاعتماد على غِذاء ما وراء البِحار أو الجوع، مُقابِل إسْكان أجْدادها. وبِمُقابل إهْلاك الأراضي التي يَسَّرها الخالَق صالحةً للفلاحة، تُصبُّ أمْوالٌ جَمّة فيما يٌدَّعَى أنّه إسْتصْلاح الأراضي حينا والفلاحة الصحراوية أحيانا، ضارِبين بالحكْمة الجزائريّة القائلة “خلقا لله وفرّق” عرض الحائط. من أمثلة ذلك أيضا سياسات “الباب اللييْجيك مِنه الرِّيح سدّه وأستريح” التي تعْمل بها الحكومة، أوالتي عملت بهاحين فرَضت التَّسْديد ضمْن العقود الدوليّة عن طريق القرْض السندي، في سبيل حل مشاكل جزئية، ثمّ لم تلْبث الحكومة أنْ تراجعت جُزْئيًّا بعْد أنْ نُبِّهتإلى هفْوتها. وأدْرِج إنْ شئْت ضمْن ذلك، اللُّجوء إلى الإسْتيراد العقيم، لتلْبيّة إحْتياجات يكون من الأوْلى العمل على تنميّة الاستثمار فيها محليًّا، أوعلى الأقلّ الحِفاظ على الوحدات المُخصّصة لتلْبيَّتها سابقاً. ومن ذلك أيضا، التّكْثيف من العمليّات قصْد حلّ مشاكل ضمْن قطاعات تحْتاج أساسًا إلى إعادة النّظر في التّنْظيم، عِوَضًا عن اللُّجوء إلى حُلول مُكْلِفة ومُفْرَغَة الجدْوى. وقِسْ على ذلك اللجوء إلى إسْكات الحَناجر بِمَلْأ الأفواه، وغضّ الطَرف عن الآفات والتجاوزات في سبيل أمن إجْتماعي واهِمٍ، والأمثلة كثيرة ومُتعدِّدة. إنّ البتّ في نَجاعة الحُكْم ورشاده، ينْطلِق من قُدْرة هذا الحكْم على إبْتكار الحُلو لأيٍّ ما كانت الوسائل المُتاحة، مع صرْف النّظر عن الحلول الآنِيّة التي لا تزيد إلاّ تعْقيدا للأزمات، أوتَخْلق مسارات منْحرفة لأخْلاقيات الأمّة، ورَسانة بُنْيانها الاجتماعي. ولايُوازي معْيار ابتكار الحلول أهميّة فيتقْيِّيم رشاد الحُكْم، إلاّ معْيار تَصوُّر الطَرائق والأساليب المُكمِّلة والمُتكامِلة والتَّحكُّم فيها، بما يكْفل حفْظ المال العام وحفْظ أخْلاق المُسيِّرين من الانحرافات نتيجة وفْرة المال وتعدُّد المشاريع. أمَّا عمليّة سكْب الأمْوال “شُرُمْ بُرُمْ” كما يقول المثل، فهي في متناول حتى سُفهاء القوْم، حفِظ الله حكوماتنا من السَّفاهة. [email protected]