عاش الجاهليون قبلنا لقيم صنعوها بالبيان والسنان، وتغنوا بها في أسفارهم وأشعارهم وكانوا يحتفلون بمقدم اثنتين: ميلاد فارس أو نبوغ شاعر، لأن الأول كان يحمي الحياة من تهديدات الموت، والثاني كان يزرع الجمال في مروج مكارم الأخلاق. راجت في ثمانينيات القرن الماضي نكتة جزائرية فيها كثير من السياسة وقليل من سوء الأدب، تقول: إن زعيما عربيا قام بزيارة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية فرافقه رئيس أمريكا إلى كاليفورنيا، وقام يشرح له كيفية تحويل صحراء قاحلة إلى أرض ممراع، تشع بالخصوبة والجمال وتزود الولايات المجاورة بفائض منتوجاتها من الخضار والفواكه والحبوب ... ولما فرغ الرئيس الأمريكي من تقديم هذا العرض الرائع، سأله الزعيم العربي: كم احتاجت هذه العملية من الوقت؟ رد عليه قائلا: 10 سنوات تقريبا. ضحك الزعيم وعلق قائلا: هذا وقت كثير.. ففي بلادي حولنا حقولنا الخضراء إلى صحراء قاحلة في ظرف سنتين! ، وعندما أحس أن نظيره لم يفهم كلامه، أكد له ذلك بالقول: تستطيع يا سيادة الرئيس أن تسلم لنا كاليفورنيا الخضراء وسوف ترى كيف نعيدها صحراء قاحلة في أقل من سنتين؟ هذه نكتة معبرة عن واقع مر، ظهر فيه اختصاص جديد هو القدرة على الهدم، وبرزت نخبة من (الهدامين) الذين لا يعملون شيئا ولكنهم متخصصون في كشف عيوب العاملين وفي فحص مثالبهم وتتبع عوراتهم وإحصاء سقطاتهم والبحث عن الشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض، هم تجار كلام، لا هم فرسان ميدان ولا شعراء بيان، لا يحركهم العجب ولا يصومون شهر رمضان ولا أيام رجب. ومن أمثلة ذلك: يبذل فريق لكرة القدم جهودا جبارة ليسجل هدفا في مرمى شباك المنافسين، فيبحث الهدامون عن (العيب) في هذا (الإنجاز) الكروي ليضخموا جانب النقص فيه.. فإذا جاء مبكرا قالوا: تسرعوا بالتسجيل وسوف يدفع هذا التسرع منافسيهم إلى (الانتقام) وإذا جاء في الربع ساعة الأخير قالوا: بلغت قلوبنا الحناجر من أجل هذا الهدف التافه، وإذا أحرزوه في الوقت بدل الضائع، قالوا: هذا هدف بارد، وزادوا على هذه الفلسفات الهدامة كلاما كثيرا وتعاليق تتجاوز قدرات (ميسي) وفنيات (بيكمباور) وشهرة (مارادونا) وهم ما دخلوا المربع الأخضر في حياتهم مرة واحدة، وبعضهم لم يلمس الكرة الدائرية في حياته.. لكنهم عباقرة في النقد وأساتذة في هدم كل بناء وأصحاب تخصصات دقيقة في علم جديد يسمى ..(خالف تُعرف) فهم واقفون على الضد من كل إنجاز ومن كل تحول.. مهما كان موقف الآخر من التحولات. ومن أمثلة ذلك: - أنهم ضد كل إنجاز، وضد كل عالم وجاهل، وضد كل متحدث أو صامت.. - فهم ضد السلطة لأنها في نظرهم فاسدة ومتسلطة ومنحازة وفاشلة ومرتشية.. - وهم ضد المعارضة لأنها مشتتة ومتورطة وريعية وليس لها برنامج بديل.. - وهم ضد الثورة على الواقع لأن فيها مجازفة وسوف تعرض الوطن للتمزق والدولة للسقوط.. - وهم ضد الراضين بسياسة الأمر الواقع لأنهم خانعون ومستسلمون وسلبيون.. - وهم ضد القنوات الوطنية لأنها متخلفة وبيروقراطية وتكرس الرداءة ولا تتفاعل مع الأحداث.. - وهم ضد القنوات الأجنبية لأنها مأجورة ومتحاملة وعميلة لإسرائيل.. - وهم ضد القطاع العام لأنه من مخلفات الاشتراكية ومن بقايا أنظمة الريوع.. - وهم ضد القطاع الخاص لأنه يكرس الطبقية ويؤسس للمافيا ويسلم البلد لعملاء نظام البارات.. - وهم مع أنفسهم وضد كل حق لا يساير هواهم!؟ باختصار، هم ضد كل شيء يتحرك، وضد كل شيء ساكن، وضد المتكلمين والصامتين والناصحين والواعظين والناجحين والفاشلين والمعربين والمفرنسين والإسلاميين والوطنيين والديمقراطيين.. وضد المتحالفين والمتخاصمين، وضد من هم في الحكم ومن كانوا فيه ومن خرجوا منه ومن رجعوا إليه، وضد النظام القائم والمعارضة التي تعارض المعارضين للنظام.. وأكاد أقول: هم ضد الفصول الأربعة، فحر الصيف يصليهم واصفرار أوراق الخريف يؤذيهم، وقر الشتاء يثنيهم وجمال الربيع يلهيهم..فهم عبء على الحياة، كما قال الشاعر في أمثالهم : هو عبء على الحياة ثقيل من يرى في الحياة عبئا ثقيلا والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئا جميلا إن هذا النوع من الناس موجود في كل المجتمعات بنسب لا تتجاوز (خميرة الخبز) وقد يكون وجودهم، بهذا الحجم، نافعا إذا لم تتكاثر أعدادهم بحيث تصيب كثرتهم عجين المجتمع بالتعفن، ، فكل شيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، كما تقول الحكمة القديمة. [email protected]