لا أظن أن تورّط دول غربية مدفوعة من الولاياتالمتحدةالأمريكية ودولة الاستعمار الاستيطاني إسرائيل في الأزمة الوطنية السورية، يحتاج إلى برهنة. وليس من حاجة أيضا إلى التذكير بالحماسة التي يبديها أمراء مملكات شبه الجزيرة العربية وانخراطهم الكامل في السيرورة "الثورية" التي تطحن الناس منذ سبعة عشر شهرا في المدن والأرياف السورية. لا جدال في أن استقلالية هؤلاء الأمراء في تقرير سياساتهم هي نسبية جدا. يأخذك العجبُ، كل العجبِ، عندما تقرأ في الأسبوع الأول مقالا بقلم يساري يصف فيه القائلين بوجود مؤامرة استعمارية ضد سورية بأنهم أصحاب تعويذات. ثم تقرأ في الأسبوع الثاني مقالا له في الصحيفة ذا تها، يكشف فيه عن مكنونات وجدانه. فتعلم أنه "مدهوش بل مشدوه" منذ أن عاين عددا من الحروب الأهلية في بلاد العرب ودرّس مادتها لطلابه. هذه الحروب أعادته كما يقول إلى اللغز الأصلي " قابيل وهابيل" وإلى السؤال لماذا يقتل الأخ أخاه؟ يعترف صاحبنا بأن الدهشة التي تلازمه تحولت إلى ألَم ٍ وعذابات عندما شاهد على" اليوتيوب" [مشهدا للتحقيق في أحد معتقلات "الجيش السوري الحر" مع" شبيح" يتعاطى معه الضابط "الحر"] بحسب "تراتبيات في العلاقات" درّبَ النظامُ عناصره على اتباعها بحيث ينادي الرئيس مرؤوسه "ولاه" و"ياحمار". الكلام هنا لليساري. وكأن هذا الأخير يريد أن يقنع القارئ بأن المسؤول عن فظاعة سلوك "الضابط الحر" هو النظام نفسه. ليست هذه الخلاصة من وجهة نظري أكثر هلهلة ً من قولته بأن إصرار هذا النظام على "الحل الحربي" استولد كما يزعم، عسكرة المعارضة. (يتفرد هذا اليساري باستخدام مصطلح "الحل الحربي" بدلا عن "الحل الأمني" ). يحق للكاتب اليساري وللقارئ أيضا، أن يعبرا عن انفعالاتهما العاطفية وصدماتهما النفسية "إزاء الثورات العربية ونزول عشرات الملايين من العرب إلى الشوارع في نصف دزينة من البلدان العربية". تعبيرا عن "مطالب متشابهة عن العمل والحرية والخبز والكرامة". يحق لهما ايضا أن يدهشا أمام مشهد الجثث والدمار في حلب. هل الذين يقاتلون ضد الجيش العربي السوري في حلب هم من سكان هذه المدينة وهل هم جميعا من السوريين؟؟ ليس المطلوب من الباحث أن يُحفِّظ آراءه وأن يفرض استظهارَها على الناس. بل يتوجب عليه أن لا يجتزئ من المعطيات، وأن يُكمل بياناته وبراهينه حتى نهاياتها المنطقية. فأفضل طرق الإقناع هي التي تُظهر بوضوح كيف تم الوصول إلى الخلاصات والاستنتاجات. كان من المنتظر أن يكشف صاحبنا اليساري عن الجهات والدوائر التي عسكرت المعارضة السورية. هل أن هذه الأخيرة ولدت فعلا من لدن الملايين التي ملأت الشوارع في نصف دزينة من البلاد العربية؟ أم ان الإعداد لها كان قد بدأ منذ سنوات في بعض العواصم الغربية؟ ما هي الأسباب التي جعلت ريح "الثورة" تهب في نصف دزينة من البلدان العربية وتحيد عن الدزينة المتبقية ؟ لقد سمح كاتب المقالين المذكورين أعلاه لنفسه بكيل سيل من الانتقادات و الاتهامات لنظام الحكم السوري وحزب الله اللبناني تكاد تبلغ حد القدح والتعنيف. الغريب أنه لم يتطرق في المقالين إلى دور الجهات الأجنبية في الأزمة السورية، عدا الإشارة إلى تصريح لوزير الدفاع الأمريكي فيما يبدو كمثل محاولة للنيل من النظام السوري وحزب الله بأية وسيلة من الوسائل عملا بشعار الغاية تبرر الواسطة. فلقد استوقفه قول هذا الوزير "يجب أن يبقى الجيش السوري "متماسكا " عندما يرحل الرئيس الأسد". يتمنى معلم مادة الحرب الأهلية على القراء أن يتفضلوا بتفسير هذا التصريح. أملا بأن يحرره ذلك من عذابات الدهشة التي تتولاه. الرأي عندي أن الفائدة من هذين المقالين هي في كونهما يمثلان عينّة نموذجية تكشف بالتأكيد جانبا من حالة التجوّف والتصلب التي تعتري فئة من الذين يمارسون الفكر في هذا الزمان العربي. وهي حالة لا تختلف في تقديري عن عِلّة الحكام. فهؤلاء كمثل الطفيليات أفرغوا السلطة والبلاد من عناصر الحيوية والتجدد، فتسبب لهم ذلك تَخَما وعقما. وأولئك يكتبون الكلام نفسه عن الثورة منذ أربعين عاما وما بشموا. ألا يحمل على العجب أن يُلمّح يساري إلى أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تريد أن يبقى الجيش العربي السوري "متماسكا" ؟ رغم عدد لا يُحصى من التصريحات والمؤتمرات والأفعال التي تؤكد عكس ذلك. وتثبت أن صاحبنا تعامى عن تدخل الولاياتالمتحدةالأمريكية. أليس منافيا للعقل والمنطق أن يتبنى هذا اليساري حجج الجماعات والقيادات الطائفية والمذهبية والإقطاعية في مغالبة ومناكفة حزب الله اللبناني، متناسيا التربة والبيئة التي نشأ عليها هذا الحزب نتيجة إفلاس نظام "التراتبيات" الطائفية والمذهبية في لبنان وتمنّعه عن انتهاج سياسة وطنية ترتكز على وحدة الأمة ووحدة المصير. من البديهي القول أن معلم مادة الحرب الأهلية لا يجهل، بل يتجاهل أن الجماعات التي تخوض الحرب ضد النظام والدولة في سورية هي أيضا تخرج من معدن طائفي ومذهبي. ينبني عليه أنه لو قيّض لها أن تبلغ ما تصبو إليه لن يكون سلوكها في سورية "أقل" طائفية ومذهبية وفسادا" من سلوك النظام اللبناني. ولن تكون أقل تبعية من الأمراء. وفي هذا السياق؛ لا أتصور شخصيا أن يغيب عن الباحث الضرر الكبير الذي أصاب القضية الوطنية والقومية العربية، نتيجة للحروب الأهلية التي ابتدأت منذ أربعة عقود تقريبا. استنادا إليه فإن الصراع سواء كان على اقتسام السلطة أوضد غزو استعماري هو بالضرورة في هذا الزمان، ذو طابع قبلي أو طائفي أو مذهبي. بكلام أكثر وضوحا وصراحة، الثورة كمثل الثورة المضادة هي قبلية وطائفية ومذهبية. هذا ينطبق أيضا على الذين يقاومون الاستعمار الاستيطاني من جهة وعلى خصومهم الذين يعاونونه بشكل مباشر أوغير مباشر من جهة ثانية. خلاصة القول أن المسألة تستلزم العمل على هدم الحواجز والجدران الطائفية والمذهبية والقبلية. ليس الانضمام إلى "العمل الإنساني" إلا ذريعة للحيلولة دون افتضاح الذين يتسببون بالحاجة إليه. أما قولة صاحبنا اليساري "مقاومتي أن أدهش وسوف أظل أدهش" فالحكم عليها وعلى مثيلاتها من "روائع المفكرين العرب" يوجد في مقالاته الأسبوعية في صحيفة السفير البيروتية وعلى أرض الواقع أيضا. خليل قانصو فرنسا