لا تترك ”الحروب” و”الثورات” المهاجر وشأنه، عندما تهب على بلاده الأصلية، فترتجع أمامه الماضي القريب الذي أجبره على الهجرة وما سبقه في سنوات الشباب حيث كانت المخيِّلة خصبة تُخرج كل يوم فكرة ومشروعا مستقبليا مثاليا، لشحذ عزيمة الذي يريد أن يصير يوما ، ”على قدر أهل العزم”. والهجرة قرار كبير، خصوصا إذا كانت دائمة ونهائية، أي إذا كانت الغاية منها الانضمام إلى مجتمع، بديل عن المجتمع الأصلي، هذا يعني المواطنة وما تقتضيه في البلاد ذات البنى المتقدمة، من واجبات وحقوق. وتأسيسا عليه، لا يكون المهاجر معنيا كونه ليس مواطنا، بالأحداث السياسية التي تطرأ على الوضع في بلده الأصلي. وبتعبير أدق، لقد تخلى راض ٍأو مرغما عن أي دور أو نشاط. ربما يكون السبب هو اتخاذ الأمور منحى لا يلائمه ولا يتفق مع فهمه. ولكن مها يكن، قلما تجد مهاجرا لم يتأثر ب”الثورات” التي عصفت بعدد من بلاد العرب. بالنسبة لي، فما تتعرض له سوريا شغلني إلى أبعد الحدود، وحثّني على إجراء مراجعة بحثا عن أسباب هذا الإنشغال وما إذا كان لا يتناقض مع كوني لست مواطنا سوريا. كيف يعبر المهاجر عن موقف حيال ما يجري في سوريا؟ إذا كان لايؤمن بالعنف كوسيلة لحل القضايا الوطنية، وإذا كان ذا حساسية شديدة ضد السلاح، إلى حد أنه لا يتصور أن الإنسان يبقى إنسانا بعد أن يطلق النار على إنسان آخر ويرديه قتيلا. من البديهي، أنه لابد من الإشارة هنا إلى الفرق بين النزاع الداخلي من جهة وبين الغزو الخارجي من جهة ثانية. ولكن السؤال الجوهري، من وجهة نظري هو من يقاتل من؟ والإجابة عندي هي أن الناس في سوريا، لبنان، فلسطين والعراق، بوجه خاص وفي بلاد العرب بوجه عام تقاتل أو تتجنّد في ميليشيات وجماعات، ليس من أجل مبدأ وطني أو قومي ولكن دفاعا عن النفس. وأنا أميل أيضا إلى الاعتقاد، بأن العصبية المذهبية أو الطائفية، التي تؤلف بين هذه الجماعات والميليشيات هنا وهناك، ليس لها أصل بالضرورة في صلب المعتقد الديني أو الإيماني، بل أكاد أجزم بأنها ليست في صلب هذا المعتقد، ولكنها القاسم المشترك الذي فرضه المستعمر على الناس، لانه سبق وجزّأهم وعبّأهم، في غفلة منهم وجهل، قبل أن يُشعل فتيل الحرب بينهم. اللبنانيون الذين انتظموا تحت راية منظمة حزب الله، إنما فعلوا ذلك من أجل مقاومة المستعمرين الإسرائيليين الذين احتلوا بلداتهم واعتدوا عليهم مرارا وتكرارا، دون أن تقوم الدولة بما يلزم لدفع العدوان وتحرير الأرض. وتوخيا للدقة أقول، لم تستنهض هذه الدولة، اللبنانيين، كأمة أو كجماعة وطنية من أجل صد الغزاة. بمعنى آخر، قصّرت في غرس الشعور بالإنتماء إلى وطن. وبالتالي إفتضح أمر هذا التقصير والتقاعس وتبين أن هذا الوطن هو خرافة أو أكذوبة، عندما دخلت الدبابات الإسرائيلية إلى بيروت، ونصبت رئيسا للجمهورية بحضور نواب ”الأمة”، وأبرمت اتفاق 17 أيار 1983 مع الحكومة اللبنانية. ينبني عليه أنه لا يوجد مشترك وطني يجمع بين اللبنانيين ويخترق حدود فئاتهم، طوائفهم ومذاهبهم. ومن البديهي أنهم لم يتوصلوا بعد إلى إيجاد مثل هذا المشترك. فعندما يقول حزب الله، إنه يستعد لصد العدوان وللقتال ضد الإسرائيليين إذا اقتضى الأمر، هو على حق. لأن سلاحه لم ينزل من السماء وكذلك القدرة على تحمل الأعباء التي تتطلبها حوائج المقاتلين. من البديهي أنه يستفيد، في تأمين هذا كله، من دعم سوري وإيراني. ينجم عنه، أنه لا يلزم المرء اطلاع واسع حتى يتكهن باحتمالية قيام الحزب برد الجميل ومساعدة الذين يزودونه بالعتاد ويقفون إلى جانبه ضد المستعمرين الإسرائيليين. المنافقون هم الذين يدعون إلى نزع السلاح من يد حزب الله بحجة الحرص على سيادة الدولة، كون وجود هذا السلاح يمثل كما يقولون انتهاكا لهذه السيادة ”الإفتراضية”. الحقيقة، في رأيي، هي أن هؤلاء لهم مصالح يرون أن خير ضمانه لها هي التظلّل تحت جناحي الإدارة الأميركية. أي اللحاق بالتيار القطري السعودي من أجل تصفية القضية الفلسطينية و”التطبيع” مع دولة المستعمرين الأسرائيليين حتى لا يتأذوا من الحرب بين المقاومين والمستعمرين. جملة القول، إن مرد الإعتراض على حزب الله، و”الإستعداد” للجهاد ضده، هو منع المقاومة ضد الإسرائيليين، بكل أشكالها. هؤلاء المنافقون يقاتلون أيضا دفاعا عن أنفسهم، النفس والمصلحة عندهم سيان. وما من شك، لا سيما أن الوقائع على الأرض تشهد على ذلك وتدحض مزاعم الذين ما يزالون يدبجون المقالات ويصطنعون المقاربات ويلبسونها لباسا منطقيا ومعرفيا، لخداع وإيهام الناس بوجود ثورة ”سلمية” ديمقراطية في سوريا، أن المتمردين الذين كلّفوا بضرب بني الدولة وإضعاف الجيش العربي السوري أو تفكيكه، إنما يسعون لبلوغ نفس الأهداف التي يسعى لبلوغها أعداء حزب الله في لبنان. أما الدولة السورية وجيشها والجماهير التي تقف إلى جانبهما، فإنهما يخوضان معركة دفاع عن النفس، أي عن الدولة والجيش. هذا الجيش قاتل الإسرائيليين، عندما كان يطلب منه ذلك. أنشئ على عقيدة ترفض التفريط بالأرض والحقوق. هذا يجعل من سوريا دولة مقاومة ”للتطبيع” مع المستعمرين الإسرائيليين، مهما استلزم ذلك من تضحيات، طالما أنها موجودة. من البديهي في هذا السياق، أنه ما من شك في أن نظام الحكم في سوريا، تحول وتبدل خلال الحرب التي مضى على اتدائها ما يقارب العامين. كل الدلائل تشير إلى اعترافه بالمسؤولية عن وجود الثغرات التي مكنت المهاجمين من التغلغل إلى الداخل السوري والإعداد للحرب. وأغلب الظن أن أداءه وثباته حتى الآن، إنما يعكسان أرادته، ليس في الدفاع عن نفسه ولكن في الدفاع عن سوريا. ومن يكن هذا موقفه يحتكم حتما إلى الشعب عندما تضع الحرب أوزارها. لولا ذلك لتنحى الرئيس وتفرق رجاله منذ أن اقتدح المستعمرون و”التطبيعيون” نار العدوان. الاستعمار منكر وتصفية المقاومة ضده منكر أيضا، وأنكار المنكر أضعف الإيمان وواجب ليس فقط على المواطنيين السوريين، وإنما على المناضلين في كل مكان ضد الإستعمار بكافة أشكاله، تأييدا لحق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها. خليل قانصو