كلما يمر يوم على الأزمة السورية، كلما حظوظ الحل السلمي تتضاءل وفرص تسوية سياسية تتلاشى، وكلما يستمر النزاع الداخلي ويحتدم، كلما تظهر بوادر انفجار إقليمي، لن تسلم من تداعياته أي دولة، وأي طائفة، وأي محور سياسي دولي. المعارضة السورية، ومن ورائها كل الدول المؤيدة لها، كانت ترى أن الأمر لن يستغرق أكثر من أسابيع، أو أشهر قليلة على أقصى تقدير للإطاحة بنظام الرئيس الأسد، وعلى النقيض، النظام السوري، ومن ورائه محور الممانعة والدول الراعية له، وعلى رأسها روسيا، كانت تصرخ في كل نادي أن أمر استعادة الهدوء والاستقرار في ربوع الوطن لن يستغرق أكثر من أسابيع قليلة، وأن الأمر لم يتعد أن يكون حراكا اجتماعيا مطلبيا، ليس إلا، يظهر أن الطرفين قد أخطأ التقدير، وجانبا الصواب مجانبة جذرية. يبدو أن مئات من السنين أو أكثر لم تكن كافية لدفن مظاهر الطائفية المقيتة، واستبعاد كوابيس الحروب الدينية من أرض الشام المباركة، يبدو أن رغبة الهدم ونشر القتل أقوى من رغبة البناء ونشر الحياة، فما نتج من مشاحنة طائفية وسياسية ودينية، والآلاف من الضحايا من كل جانب ومن كل الطوائف تعزز صفوف معسكر التشاؤم على صفوف معسكر التفاؤل في ما يخص حلحلة سياسية للأزمة السورية. فما الذي جعل الحل يتيه ولا يجد له سبيلا إلى الشعب السوري ؟ وما الذي جعل مهمة الوساطة والبحث عن الحلول السياسية أشبه بالمهمة المستحيلة ؟ جملة من الأسباب تفسر هذا المشهد القاتم: 1) تشبث الطرفين بآرائهما وتقديس الشروط المسبقة المعارضة السورية لا ترى حلا سياسيا والأسد طرف فيه، فقد جعلت من ذهاب الرئيس بشار الأسد شرطا لا نقاش عليه، ولا عودة ولا تنازل عنه، بينما يشترط النظام السوري إلقاء المعارضة للسلاح قبل الشروع في أي تفاوض سياسي، هذا التعنت جعل محاولة تقريب وجهات النظر للأطراف كلها كمحاولة حوار الطرشان، كما أن الانتصارات العسكرية الظرفية لأي طرف تعزز من هذا التشنج والتشبث حول هذه الشروط المسبقة، حيث يحسب كل مرة طرف ما أنه كسب الحرب عند كل انتصار في معركة ما. 2) تغليب مشهد النزاع الطائفي على مشهد الاختلاف السياسي: لو كان النزاع ذا صبغة سياسية فقط، لكان الأمر سائرا للحلحلة لا محالة في ذلك، إما عن طريق السياسة، أو عن طريق الحسم العسكري، ولكن ظهور تنظيمات طائفية في خريطة النزاع الأهلي بسوريا، أزم الوضع أكثر، وجعل حلحلة سياسية للأزمة بمثابة إيلاج الجمل في سم الخياط، لقد تحولت المعركة من معركة سياسية محضة إلى نزاع طائفي محض، فلقد دخل المضمار كل من تنظيم جبهة النصرة وتنظيم القاعدة من جهة، ومن جهة أخرى دخل حزب الله، مما ينبئ بأيام عصيبة لسوريا والمنطقة بأسرها. 3) تغلب مراعاة المصالح الخارجية على مصالح الشعب السوري: صارت سوريا محل تجاذبات دولية لكل طرف مصالحه الإستراتيجية، سواء الاقتصادية منها أو السياسية أو العسكرية، فالولايات المتحدةالأمريكية، وروسيا والصين، وبدرجة أقل إيران وقطر وتركيا والمملكة العربية السعودية صارت أكثر سهرا على مراعاة أجندتها وثقافة الربح والخسارة، منها على هناء واستقرار الشعب السوري، في الظاهر، قائمة الباكين والمتباكين طويلة على سوريا وحالها الدراماتيكي، ولكن في الباطن، الشعب السوري وحده يذوق ويلات الحرب، لأن النزاع صار حربا بالوكالة بين مؤيدي نظام ومؤيدي زواله، ولا أثر لمؤيدي الشعب حقيقة. 4) سيطرة معارضة إسلامية متشددة (جبهة النصرة) على واقع المعارضة: ويعد هذا البند السبب الرئيسي في تقاعس الكثير من الأطراف لحسم الموقف هناك، سيما أن المثال الليبي ما زال في الأذهان وتأثيره على تفجير الأوضاع في منطقة الساحل والصحراء، سيطرة تيار متشدد على سوريا لا يخدم لا الدول المؤيدة للنظام السوري ولا الدول المؤيدة لزواله، سيما أن إسرائيل، الطفل المدلل للغرب على مرمى حجر من سوريا، ولذلك نجد الغرب في حيرة من ناحية مساعدة عسكرية مباشرة للمعارضة السورية، رغم تشديد المطالب لذلك من طرف دول عديدة كقطر والمملكة العربية السعودية وتركيا، الحرص على ذهاب المساعدات من كل نوع إلى معارضة معتدلة كانت دوما الشرط الأساسي الذي يتكلم عنه قادة الغرب. لقد حاول المجتمع الدولي باحتشام أن يساهم في بلورة حل طال انتظاره، استحياء من رأي شعبي عالمي متزايد مطالب بوضع حد لمعاناة الشعب السوري الحبيب، أكثر منه شعورا بواجب المسؤولية لحماية سوريا من الدمار، وخجلا أيضا من شعوب العالم، التي بدأت تتساءل كثيرا، حول السر في التدخل السريع بليبيا الغنية بالنفط والغاز، والبطء الرهيب في التدخل بسوريا حيث قلة وجودهما، فكانت مبادرة كوفي عنان ثم تلتها مبادرة الأخضر الإبراهيمي، وفي كل مرة، تجد أطرافا تقف بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في طريق بصيص حلحلة متبادرة، العالم يظن غباوة أن الحرب لا تقع إلا عند الآخرين، لأنهم لا يدركون أن نارها سرعان ما تصل إلى أي مكان، مع كثرة الصواعق المتفجرة في عالمنا الذي يغلي بالمشاكل، من أجل حل دائم وواقعي للمشكلة السورية، لا بد من التركيز على النقاط التالية للدفع نحو الاتجاه الصحيح وتصور صائب لحل واقعي: 1) عزل القوى المتطرفة: من الجانبين، عبر تطهير الصفوف من كل الأصوات الراديكالية أو تحييدها، وستكون المهمة جد صعبة وحساسة سيما في أجواء الحروب، حيث لآراء هؤلاء صيت في الأوساط الشعبية. 2) التركيز على إخراج الطائفية من الإشكال: فالصبغة الطائفية للمشكلة السورية، والتشحين الطائفي المتبادل سيطيل الحرب، لا شك في ذلك، وستوسعها مثلما هو الحال بلبنان والعراق، إن التكلم عن العلوية والشيعة والمسيحيين والسنة والدروز، سيدفع إلى تكتلات على أساس طائفي وبالتالي جغرافي، ولن يساهم في إبقاء وحدة سوريا الترابية والسكانية. 3) الضغط على العرابين: وهم إيران بالنسبة للنظام السوري، وقطر وتركيا بالنسبة للمعارضة السورية، وبدرجة أقل روسيا والصين بالنسبة للأول، ودول الخليج والغرب عموما بالنسبة للطرف الثاني، والضغط يكون من أجل الدفع إلى حل سياسي، ومن أجل خفض وتيرة التسليح بين الطرفين، وتجفيف مالي للطرفين لدفعهما إلى التفاوض. 4) السهر على وقف التجييش الإعلامي بين الطرفين: فدور الإعلام العربي كان سلبيا للغاية في الأزمة السورية، فلقد انحرف في الكثير من المرات من دوره المهني، إلى دور سياسوي مقيت، ساهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على صب الزيت على نار الحرب المشتعلة بسوريا. لا أشك أن المليون لاجئ سوري بالخارج، والملايين اللاجئة بالداخل، من هذا الطرف أو ذاك، فالألم والمعاناة ليس حكرا على طائفة دون أخرى بين بني البشر، ”إن تكونوا تالمون، فإنهم يالمون كما تالمون” (الآية)، تحلم هذه الأيام بسوريا آمنة ومستقرة وقوية، كما لا أشك أن الأمة العربية والإسلامية أيضا تحلم معهم نفس الحلم، فاللهم أضعف شياطينهم، وقوي ملائكتهم، وسهل لهم حلا عاجلا غير آجل. بقلم: عبد الكريم رضا بن يخلف/صحفي