سلطات بوظائف مُلْحَقات يُدركُ المواطن الجزائري العادي، مثلما يُدركُ غيره من رجال الساسة، أنّ سلطة الدولة مُحتكرَة بين أيدي أصحاب السلطة الفعليين، وأنّ بقية السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية) تظهر أحيانًا وكأنّها مُلحقات للسلطة الفعلية، وهذه ليست ظاهرة تتميّز بها الجزائر عن بقية الدول، أو خاصّية تتّسم بها، لكنها (حتمية) سياسية نجدها دائمًا إلى جانب السلطات الرسمية التي تُقيمها الدساتير لممارسة شؤون الحكم كالسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، حيث توجد سلطات أخرى واقعية أو فعلية(5)، تُسهم في توجيه دفّة الحكم، وتؤثّر في اتّجاهات السلطات الرسمية في الدولة. هذه الجهة، هي ما يُطلق عليها جماعة الضغط، وهي هيئة أو جماعة منظّمة تدافعُ عن مصالحها الخاصّة لدى السلطات العامة في الدولة، فتلعب دورًا هامًا في الحياة السياسية لهذه البلاد، لدرجة أنّ بعض القرارات تكونُ من إعدادها هي، ويقتصر دور سلطات الدولة على إضفاء الصفة الرسمية عليها (6). يُجمع رجال الساسة والباحثين في السياسة أنّ التجاربَ أثبتت صعوبة وضع حدّ لمثل هذه الجماعات للحدّ من تدخّلها، وأنّ أحسن طريقة للتقليل من هذا التدخّل تتمّ بتقوية مكانة السلطات الثلاث دستوريًا، مع إقامة توازن بينها وبين الممثلين الشرعيين للمواطنين. وعليه، فإنّنا نودّ معرفة إنْ كان الدستور القادم للجزائر سيتناول جدّيًا مثل هذه القضية حتى يُقوّي من وزن السلطات الثلاث لتتخلّص ولو نسبيًا ليس فقط من تأثير جماعات الضغط، لكن من هيمنتها بالأخصّ. الملاحَظ في السنوات الأخيرة، أنّ جماعات الضغط تزايَدَ حجمها وتعاظَمَ تأثيرها بدخول المال الوسخ إلى مُعترَك الحياة السياسية واقتحامه بقية الميادين، وأصبح أمر تدعيم السلطات الثلاث بمواد دستورية أمر مهمّ لمجابهة جماعة الضغط والتعامل مع جماعات المصالح، فالرشاوى وعمليات النهب والفضائح المتفجّرة كلّ يوم تؤكّد صراحة على وجود جماعات تؤمن فقط بخدمة مصالحها، فإذا كنّا في السابق نسمع فقط عن تغيّر ولاء الأشخاص المتحزّبين نتيجة تأثير جماعة الضغط، أمسينا اليوم نرى ونسمع عن الذين يُغيّرون القبعات والبرانس وحتى السراويل تحت تأثير جماعات المال. وعليه، ينبغي قبل المبادرة إلى إصلاح الدستور، ضرورة تحديد بعض المفاهيم التي تضبط وتُقنّن حدود كلّ طرف، وتُحَقّقُ الجمع بين الرؤية المنطقية للأمور وقابلية تنفيذها على أرض الواقع. أحزاب خارج لعبة الدستور السلطة في الجزائر، تختفي وراء اللقاءات التي جمعت ممثّليها بالأحزاب، والتي أطلقت عليها تسمية (جلسات استماع)، بمعنى أنّها لا ترقى حتى إلى مستوى الجلسات الاستشارية، ولا أدري صراحة إنْ كانت هذه الأحزاب ممثلة حقًا لكلّ الشعب الجزائري (7)، فنصف الشعب لا يثق في أحزاب لم تستطع حتى دفعه للمشاركة في الانتخابات، والبقية التي انتخبت عليها تراها أحزابًا مغلوبة على أمرها ولا ينبغي تحميلها فوق طاقاتها، وأنّها تبقى تمثّل على الأقلّ القناة التي تربط الشعب بمؤسّساته لإسماع صوته في جوّ ينعدم فيه بديل حقيقي يُساهمُ في إنجاح ما يصبو إليه الشعب من إصلاحات، وأنّه من غير المنطقي التأمل في أحزاب مهمّشَة منذ تاريخ تأسيسها، تخنقها الأزمات، ويحكمها طابع الاختلافات، أن تتخطّى الحدود التي رسمتها لها السلطة الفعلية. الكثير من الجزائريين يرون في أحزابهم نُسخة مصغّرة لنظامهم، باعتبار أنّ النظامَ السياسي لم يفرز إلاّ سياسيين من نفس طينته، ومن القالب نفسه، وعليه يستحيل أنْ نجنيَ من الشوك عنبًا، بدليل أنّه لم يَقُمْ أيّ حزب قُدّمت له الدعوة لحضور تلك الجلسات باستشارة قاعدته أو حتى مكتبه السياسي للتعرّف على وجهات نظره في تلك الإصلاحات التي نادى بها رئيس الجمهورية، ممّا يدلّ على أنّ هذه الأحزاب التي تدّعي الديمقراطية لا تُطبّقها أصلاً حتى مع مناضليها ولا تستشيرهم في أيّ صغيرة أو كبيرة، ولا تلجأ إليهم إلاّ في مرحلة الانتخابات.. مثل السلطة تمامًا. النقطة الرئيسة التي ركّزت عليها الأحزاب في مسألة التعديل الدستوري، تمحورت حول العهدات الرئاسية، وتجاهلت الحريات والحقوق مع أنّها هي التي تضبط عدد العهدات، حيث انصبّ اهتمام المعارضة حسب تصريحات معظم الأحزاب في غلق الأبواب والنوافذ أمام الرئيس عبد الرئيس بوتفليقة حتى لا يترشّح إلى عهدة رئاسية جديدة رابعة، وترفُضُ عدم تحديد عدد العهدات الرئاسية، وغاب عنها أنّ دستور جديد بمواد جديدة يعني شرعيته في الترشّح مرّة أخرى باعتبار أنّ القانون لا يُطبّق أبدًا بأثر رجعي. الأحزاب عميت أبصارها، فلا تنظر إلى الدستور إلاّ من الزاوية التي تحقّق بها مصالحها، وتجهل أنّ مُصيبتها لا تكمُنُ في عدد العهدات بقدر ما يكمن في دستور لا يحقّق القدر الكافي لها من الحريات حتى تعملَ بالشكل الذي يُتيحُ لها نشر أفكارها وتوضيح أبعاد برامجها، فبوتفليقة ليس أصل المشكل، لأنّ بوتفليقة سيذهب يومًا ويبقى الدستور، الذي غاب عن سياسيينا أن يطالبوا مثلاً بتعديله بالشكل الذي يسمح بتناول منظمات سياسية (أحزاب) طالما أنّها تلعب دورًا كبيرًا في سير الحياة الدستورية دون أنْ يُنظّمها الدستور أو يشير إلى وجودها، فدستورنا لا يشير إلى نظام الأحزاب، أو إلى ما يُمكن أنْ تؤدّيَهُ من دور في إثراء الحياة السياسية وتنميتها، رغم ما للأحزاب من أدوار يُمكنُ أن تلعبها إذا وُفّر لها الجوّ الملائم الذي يشجّعها على توجيه السلطات الرسمية التي حدّدها الدستور، بل من حقّها أن تُملي إرادتها على هذه السلطات، غير أنّ دستور الجزائر في مادته التي تسمح بحقّ إنشاء الجمعيات ذات الطابع السياسي، يوحي لنا أنّ النظام في الجزائر ينظر إلى هذه الأحزاب بنفس النظرة التي كان ينظر إليها الديمقراطيون إلى الأحزاب منذ أكثر من قرنين، وتعيدنا إلى توماس جيفرسون (8) الذي قال يومًا : ”يُؤَدّي الحزب دائمًا إلى إلهاء العامة، وإلى إضعاف الإدارة العامة، إنّه يحرّضُ الجماعة على مظاهر التغيير غير ذات أساس، ويولّد ذعرًا زائفًا، ويُلهب العداوات، ويُثير الشغب والاضطراب. إنّه يفتح الأبواب للنفوذ الخارجي، وللفساد، اللذين يصلان بسهولة إلى الحكومة نفسها من خلال القنوات التي تُتيحها الأهواء الحزبية. ولذا، فإنّ سياسة وإرادة البلاد تخضع لسياسة وإرادة بلد آخر”(9). بعض زعماء الأحزاب الذين يتحدّثون عن تعديل الدستور، يُشعروننا أحيانًا أنّهم ليسوا فقط خارج الميدان السياسي، ولكن أيضًا خارج السياسة بكلّ ما تحمله من مفاهيم، وهذا بتركيزهم على تعديل مواد دون أخرى، وأحيانًا يوحي تدخّلهم أو اقتراحهم أنّه لا يتعدّى مجرّد إحداث ضجيج ليعلم الآخرين بوجودهم، فعندما نسمع أنّ أحزابنا تُطالبُ إلى حدّ الإصرار بأنْ يُحدثَ دستورنا توافقًا سياسيًا أو يُعدّل في إطار توافق سياسي، فإنّنا نتساءلُ بدهشة إنْ كانت هذه الأحزاب تعي فعلاً ما يعنيه مفهوم التوافق السياسي، الذي يُقصَدُ في جوهره تكييف مبدأ الأكثرية والأقلية في مرحلة الانفلات السياسي والأمني عندما تَغيبُ سلطة الدولة ومؤسّساتها وأجهزتها، كما أنّه مفهوم يُشيرُ إلى اختلاف أفراد الشعب بسبب انقسامهم إلى طوائف عرقية أو دينية أو لغوية أو ثقافية مع وجود فوارق عميقة بينهم. والأغرب، أنّ مفهوم التوافق السياسي بعيد كلّ البُعد عن مفهوم الديمقراطية، لأنّه مفهوم نُخبوي يقع بين نُخب دون الرجوع إلى الشعب أو الاحتكام إليه، والغرض منه إيجاد حلول سياسية بطريقة غير ديمقراطية، فرئيس توافقي وحكومة توافقية تعني اختيارها بعيدًا عن اختيارات الشعب. فهل فشلت الديمقراطية في بلادنا حتى نُطالبَ بالسياسات التوافقية؟ التيه السياسي الذي تتخبّط فيه أحزابنا، لا يختلف كثيرًا في الشكل والمضمون عن التيه الذي يُعاني منه نظامنا السياسي، فالضبابية التي تعيشها منذ إعلان التعدّدية السياسية، وعدم وضوح الرؤية ممّا يُراد تعديله في الدستور، وقلّة حيلتها في التكيّف مع المستجدّات، جعلها تهيم في فراغ سياسي عمّقَ من الشرخ الذي يُبعدها عن المواطن. نُعدّل لنُغيّر ماذا؟ إذا كانت أهمّية الدستور تكمنُ في أنه يحدّد شكل النظام السياسي ويرسم لون طبيعته، ويُضفي عليه شرعيته، فإنّ قيمته تكمن في أنّه يُطوّر من أشكال هذا النظام حتى يكونَ فاعلاً و قادرًا على مواجهة التحوّلات العميقة التي تعيشها الدولة، وهنا نتساءل عن هذه التحوّلات الكبرى التي تعيشها الجزائر والتي تضطرّنا إلى تعديل الدستور حتى يتماشى مع المرحلة القادمة ويواكب النقلة؟ المتعارَف عليه، أنّ كلّ دستور يأخذ صبغته التاريخية. والمتّفق عليه، أنّ الدساتير التقليدية كانت تُعنى فقط بالنظام السياسي (شكل الدولة ونوع الحكومة)، غير أنّ الدساتيرَ المعاصرة أضحت تُعنى أيضًا بالمجالات الاقتصادية والفكرية والاجتماعية، فبعدما اتّسعت دائرة نشاط السلطة أصبحت الحكومة تُشكّل عُنصرًا من هذه المجالات، فهل بحثنا في مجالات وممارسات دساتيرنا السابقة حتى نستخلصَ الدروس ونستنبط العبَر لنطوّر بها دستورنا المزمع تعديله، حتى نحصلَ في الأخير على تطوير لا مجرّد تعديل في المواد، فالخروج من نظام لآخر ينبغي أن يكونَ نتاج تجربة وليس مجرّد الرغبة في التعديل، وبإجماع فقهاء القانون، فإنّ أحسن تعديل هو ذاك الذي يُجسّدُ توازنًا بين السلطات بتقوية السلطة التشريعية والسلطة القضائية باعتبار أنّ النظامَ الرئاسي يمنح للسلطة التنفيذية الغطاء الدستوري لتستبدّ بالسلطة باسم القانون. يتساءلُ الكثير عن المكانة التي سيحتلّها المجلس الشعبي الوطني في التعديل القادم للدستور، وهذا تساؤل مشروع بعدما فقدت سلطتنا التشريعية كلّ هيبتها وقوّتها ومكانتها، فمن الناحية العملية، لم يحدث أنْ وُجدَ أيّ توازن بين المجلس الشعبي الوطني كسلطة تشريعية وبين الحكومة كهيئة تنفيذية. أمّا عن السلطة القضائية، فلا أصل لها، فهي غائبة ولا نسمع لها صوتًا رغم كلّ الأزمات والفضائح التي عاشتها الجزائر، ولا يُذكّرنا بها إلاّ التلفزيون مرّة كلّ سنة عند افتتاح السنة القضائية. يذهبُ البعض إلى تحبيذ النظام البرلماني، بوصفه النظام الذي يجعل الحكومة مسؤولة أمام البرلمان قصد إحداث توازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، غير أنّي أتساءلُ بما أنّ الدستورَ مصدر تشريعه العُرف، ما هي التقاليد التي اكتسبها برلماننا في مختلف مراحل تاريخه و المزايا أو الخصائص التي تؤهّله ليقف ندًا أمام السلطة التنفيذية، فمثل هذه الحقائق لا يُمكن إغفالها أو تجاهلها أبدًا، فمجلسنا الشعبي الوطني يَشهدُ له الجميع بأنّه منذ نشأته لم يكتسب إلاّ خاصية رفع الأيادي للمُصادَقة على البرنامج الذي تُقدّمه الحكومة، إلى درجة أنّ بعض المسؤولين السامين يرونه ليس أهلاً حتى لرفع الأيادي، وأنّهم ينزلون إليه فقط امتثالاً لمواد الدستور. هي حقيقة، الكلّ يدرك أنّها مُرّة، لكن لا أحد يُمكنه تجاهلها، فالدول التي تبنّت النظام البرلماني، لم تصلْ إلى تلك المرحلة إلاّ بعدما شهدت برلماناتها تطوّرات مُوازية لتطوّر السلطتين التنفيذية والقضائية، كما اتّسمت برلماناتها بوجود نوع من الصرامة الحزبية التي تضبط بشكل دقيق الحزب وأعضاء الحزب وممارساته. أمّا أحزابنا، فهي تضبط عقاربها فقط على الانقسامات الداخلية واقتتال أفرادها لا على الأفكار والبرامج، لكن على مقعد في البلدية أو في البرلمان، وقد يكون هذا المقعد أحيانًا سببًا في إعلان انقلابات علمية وبيضاء تطوّرت مع مرور الوقت إلى حركات تصحيحية دون أن يُوضّحَ لنا أصحابها عن الخطأ الذين يرغبون في تصحيحه أو عن الخطأ الذي تمّ تصحيحه بعد الانتهاء من العملية التصحيحية بنجاح. ما يُقال عن السلطة التشريعية يصدق على السلطة التنفيذية، فأنا أطرح علامات استفهام عن الدروس التي استخلصتها السلطة التنفيذية من تجارب الماضي، فالحديث عن نظام ديمقراطي يعني الحديث عن سلطة تنفيذية مسؤولة أمام البرلمان، وهذه المسؤولية تكونُ تضامنية أو فردية، تضامنية بمعنى أنْ تكونَ كلّ وزارات الحكومة متضامنة أمام البرلمان الذي في حالة عدم موافقته على برنامجها عليها تقديم استقالتها، عكس المسؤولية الفردية، التي يتحمّل فيها أيّ وزير في الحكومة وحده مسؤولية تقديم استقالته في حالة ما إذا سحب البرلمان منه ثقته، فنحن لم نتعوّد على مثل هذه التقاليد، ولم نعرف معنى لمفهوم سحب الثقة، كما أنّ الاستقالة في عُرفنا السياسي هي خيانة للأمانة، وانتقاد حكومة بلادنا هي عَمَالة للخارج. ..يتبع
الهوامش (5) - (6)- أ. د. ماجد راغب الحلو، النظم السياسية والقانون الدستوري، الإسكندرية، منشأة المعارف، الطبعة الاولى، 2000. (7)- نسبة المشاركة في انتخابات 29 نوفمبر 2007 بلغت 44.9 في الانتخابات البلدية و43.47 في انتخابات المجالس الولائية، وبلغت في 29 نوفمبر 2012 نسبة المشاركة في الانتخابات المحلية 44.27 بالمائة بالنسبة للمجالس البلدية و 42.84 بالمائة للمجالس الولائية. وبالنسبة لانتخاب أعضاء المجلس الشعبي الوطني الذي جرى يوم 10 ماي سنة 2012، بلغت نسبة المشاركة 43.14. و في انتخاب أعضاء المجلس الشعبي الوطني الذي جرى يوم 17 ماي سنة 2007، بلغت نسبة المشاركة 35.67 بالمائة. وإذا أضفنا نسبة الأصوات الملغاة في هذه الانتخابات، فإن نسبة المشاركة تصبح كارثية بمفهوم المشاركة السياسية. (8)- توماس جفرسون (13 أفريل 1743 - 4 جويلية 1826)، مفكر سياسي وأحد المؤسّسون للولايات المتحدة والمؤلّف الرئيس لإعلان الاستقلال الأمريكي (1776)، ومؤسس الحزب الجمهوري الديمقراطي، أصبح الرئيس الثالث للولايات المتحدةالأمريكية من 1801 حتى 1809 وأحد أشهر رؤسائها. (9) - د. ثروت بدوي، أصول الفكر السياسي، دار النهضة العربية، 1970