أصبح الدين مطية لنيل الشهرة أو السمعة أو الجاه عند كثير من الناس، فتحولت العبادات من كونها وسيلة للقرب من الله إلى سلوك اجتماعي مُلَّمع ومضَّلل. ومن أعظم هذه العبادات الحج، الذي بات عند كثير منا وسيلة لتبيض الصورة ونيل الحُظوة. فبعد عودة الحاج قد يزداد تورطا في مسالك الهوى والشيطان والعياذ بالله. لذا ارتأينا أن نقدم هذه النبذة عن معاني الحج ليستدرك هؤلاء ما قد يفوتهم في الموسم المقبل بإذن الله تعالى. لقد أوجب الله الحج على القادر المستطيع، فَرَضَهُ في العُمر مرة، ونَدَب إليه بقدر ما يُطيق العبد. والحج فوق كونه شعيرة إسلامية، وركنًا ركينًا من أركان الدين، فإنه دعوة خالصة لموسم سنوي ومؤتمر عالمي، يحضر فيه المسلمون من كل فجٍ عميق.. يبتغي فيه الناس فوق المغفرة الفضل من الله بكل صنوف الفضل، فمن منافع جماعية إلى فوائد فردية. مؤتمر يجمع بين أهل الصلاة والتقى في موطن تنزل فيه الرحمة، والناس في خشوع وخضوع ورجاء ودعاء وتلبية، التوحيد منطقهم، والتعبد والذكر شغلهم، والله مولاهم ومقصدهم، ورضوانه سبحانه بغيتهم. رحلة إيمانية نورانية مباركة، دعاهم ربهم فأجابوه ولبَّوْا نداءه، أسلموا قلوبهم لله، وانقادوا لأمره، وانصاعوا لحكمه، واعتصموا بكتابه، واستنوا بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأخلصوا العمل لله وحده، واستمسكوا بالعروة الوثقى. إذا وصل الحاج أو المعتمر إلى الميقات أحرم بالحج أو بالعمرة، والميقات هو المكان الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الدخول إلى مكة. وعلى من أحرم أن يرفع صوته بالتلبية. روى مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في سياق حجته صلى الله عليه وسلم ”.. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء، فأهل النبي صلى الله عليه وسلم بالتوحيد ”لبيك اللهم لبيك..”. وقد جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة أخبرنا فيها عن رؤيته صلى الله عليه وسلم أو رؤياه لكثير من الأنبياء والمرسلين وهم قاصدون بيت الله الحرام حاجين معتمرين، يرفعون أصواتهم بالتلبية لله عز وجل، ومن هذه الأحاديث ما اتفق عليه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”أراني ليلة عند الكعبة فرأيت رجلا آدم أسمر اللون كأحسن ما أنت راء من أُدم الرجال، له لمة الشعر إذا جاوز المنكبين كأحسن ما أنت راء من اللِّمم قد رجّلها سرحها فهي تقطر ماء، متكئًا على رجلين يطوف بالبيت، فسألت من هذا؟ فقيل: هذا المسيح ابن مريم” والتلبية نداء جديد، لأن خاتم النبيين محمدًا صلى الله عليه وسلم، ندب إليه، وقاد قوافل ووضع مناسكه، وإن وفود الحجيج وهي تنطلق صوب البيت العتيق ملبية هذا النداء، ومخلفة وراءها مشاغل الدنيا، وهاتفة بأصوات خاشعة ”لبيك اللهم لبيك..”. إن هذه الوفود تؤكد ما يجب على الناس جميعًا لله سبحانه من إخلاص له، وطاعة مطلقة، وانقياد تام، وذكر وشكر وتوحيد وتمجيد، فلا مكان في الحج للسمعة والرياء.. فنداء الحجيج يصدقه كل شيء في البر والبحر والجو، فالملبي عندما يرفع النداء يتجاوب مع الملكوت الساجد طوعًا وكرهًا، أو يتجاوب معه الملكوت. روى الترمذي والبيهقي وابن ماجه ”ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ها هنا، وها هنا عن يمينه وشماله”. وقد علق ابن القيم رحمه الله على هذه التلبية فقال: قد اشتملت كلمات التلبية على قواعد عظيمة وفوائد جليلة: - إحداها: أن قولك ”لبيك” يتضمن إجابة داع دعاك ومنادٍ ناداك. - الثانية: أنها تتضمن المحبة. ولا يقال: لبيك إلا لمن تحبه وتعظمه. - الثالثة: أنها تتضمن التزام دوام العبودية. - الرابعة: أنها تتضمن الخضوع والذل. - الخامسة: أنها تتضمن الإخلاص، ولهذا قيل: إنها من اللب، وهو الخالص. - السادسة: أنها تتضمن التقرب من الله، ولهذا قيل: إنها من الإلباب، وهو التقرب. - السابعة: أنها جعلت في الإحرام شعارًا للانتقال من حال إلى حال، ومن منسك إلى منسك. - الثامنة: أنها شعار التوحيد ملة إبراهيم، الذي هو روح الحج ومقصده، بل روح العبادات كلها ومقصودها. - التاسعة: أنها متضمنة لمفتاح الجنة وباب الإسلام الذي يدخل منه إليه وهو كلمة الإخلاص والشهادة.. وبهذا على الحاج أن يخلص نيته لله عز جل.