ما زال الكثير من الغموض يلف الساحة السياسية الجزائرية، بل وما زال القلق والترقب يسيطران على المتتبع لما يجري في البلاد، من تغييرات، سواء على مستوى الحكومة، أو في جهاز الأمن وإعادة هيكلته، وإبعاد أسماء من على رأسه واستخلافها بأسماء أخرى. فليس من عادة المؤسسة الأمنية أن ترفق هذه التغييرات بالبيانات أو بشروح لتبرير تصرفاتها، فهي المسماة “الصامتة الكبرى”، لأن لا أحد يعرف بدقة ما يجري في كواليسها، وما القراءات إلا تخمينات تخطئ وتصيب. ولن تنقشع غيمة القلق والترقب، قبل أسابيع، بل قبل شهور، قبل أن يتضح مصير الرئاسيات المقبلة التي ثار حولها لغط كبير، بل أن يتضح مصير البلاد كلها وسط ما يجري تحت الرماد من تفاعلات بين دوائر الحكم. وأكثر من إبعاد بعض الوزراء من الحكومة رغم تعميرها طويلا في السلطة، يبقى القلق متعلقا بالتغييرات الحاصلة في الأجهزة الأمنية، فقد أعادت إعادة الهيكلة وإبعاد بعض الأسماء إلى الأذهان، ما اتخذه الرئيس الأسبق، الشاذلي بن جديد (رحمه اللّه) من إجراءات سنوات الثمانينيات من تجميد لعمل المخابرات، وحل بعض مديرياتها وتوقيف العمل بها، استجابة لنصيحة صديقه الرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا ميتران، فكانت النتيجة انفجار 5 أكتوبر الذي هز البلاد لأيام، وسقطت خلاله المئات من الأرواح، وكانت النتيجة ضربة موجعة في أمن البلاد، أمام تعاظم التيارات الأصولية التي كانت تهدد مصير الدولة، وكانت النتيجة لهذا القرار المتهور مئات الآلاف من القتلى، و25 سنة من اللااستقرار وما تبعها من تدهور في الجوانب الاقتصادية للبلاد، لما خلفته آلة الدمار من مصانع محروقة ومدارس مهدمة، ومزارع مهجورة، وما زال الوضع حتى اليوم لم يستتب، وما زال الإرهاب يهدد الكثير من مناطق البلاد، خاصة في جنوبها الشاسع. ولا أتحدث عن رهن ثرواتنا الطبيعية بأيدي الشركات الأجنبية التي استغلت الأزمة الأمنية، والمالية التي عانت منها البلاد منذ 1986 حتى وقت قريب. لهذه الأسباب الموجزة، يتخوف المتابعون للشأن الوطني من أي إجراءات تمس جهاز الأمن، الذي يعود له الفضل في حماية الجمهورية من الانهيار على يد الإرهاب العابر للقارات، ويكفي أن ننظر إلى ما يحدث الآن في ليبيا من انهيار للدولة والأمن، ومن تناحر قبلي، وما يجري في سوريا من حرب إقليمية بين القوى الدولية المتصارعة، لنعرف مدى الخطر الذي تجنبته البلاد بفضل المؤسسة الأمنية. الخوف اليوم ليس من الصراع بين دوائر السلطة على من يتحكم في مصير ومستقبل البلاد، بقدر ما هو تخوف من محاولة إضعاف المؤسسة الأمنية، وضرب رجالها بما يعيدها إلى الهشاشة التي كانت عليها سنوات الشاذلي، الشيء الذي كلف البلاد سنوات من الدمار، ما زلنا ندفع ثمنه ضعفا في المؤسسات، وتراجعا في الحريات، وغيابا للمعارضة وإفراغا للبلاد من خيرة أبنائها، سواء بالقتل أو بالتهجير. فرغم أن المطلب الذي تتشارك فيه كل القوى الوطنية، هو إبعاد المؤسسة العسكرية من الحياة السياسية، لاستكمال البناء الديمقراطي، إلا أن الخوف من إضعاف المؤسسة في الوقت الراهن، يؤرق الجميع، خاصة وأن الوضع العربي والإقليمي يرشح الجزائر للسقوط في مؤامرة الحراك العربي وما يترتب عليه من فوضى، قد تعيدنا سنوات أخرى إلى الوراء.