أخبار مصر في النصف الثاني من الأسبوع الماضي تثير الاهتمام والفضول إذا قرئت مفردة، لكنها تستدعي علامات استفهام مسكونة بالحيرة والقلق إذا وضعت جنبا إلى جنب وقرئت مجتمعة. ذلك أنها في الحالة الأولى تبدو وكأنها عناوين لأحداث راهنة متفرقة، لكنها في الحالة الثانية تشكل ملامح وقسمات لصورة واحدة تستشرف المستقبل بأكثر مما تستبطن الحاضر. لا أتحدث عن المظاهرات والاشتباكلات التي صارت طقسا يوميا لم يتوقف منذ نحو ستة أشهر، لكنني أتحدث بوجه أخص عن ممارسات السلطة وأحكام القضاء التي تلاحقت على نحو مثير للانتباه خلال الفترة من 17 إلى 20 ديسمبر الحالي. وهى الأحكام التي تتابعت على النحو التالي: -قرار قاضى التحقيقات المنتدب من وزارة العدل الخاص بحفظ التحقيقات مع 19 قاضيا اتهموا بالاشتراك في تزوير الانتخابات التي تمت خلال عامي 2005 و2010 (تبين أن أحدهم هو القاضي الذي ينظر القضية المتهم فيها الرئيس السابق محمد مرسي ومن بينهم أيضا قاضي محاكمة الفريق أحمد شفيق في قضية أرض الطيارين). -رفض دائرة طلبات القضاة باستئناف القاهرة الطعن الذي قدمه 75 قاضيا كانوا قد الذين وقعوا على ما سمى ببيان تأييد الشرعية، وطالبوا فيه بإلغاء قرار شطبهم من نادي القضاة. -تبرئة الفريق أحمد شفيق وعلاء وجمال مبارك من التلاعب والإضرار بالمال العام في قضية أرض الطيارين، التي تم فيها تخصيص 40 ألف متر لابني الرئيس الأسبق، قدرت قيمتها بأربعين مليون جنيه (تنازل الابنان عن تلك المساحة أثناء نظر القضية). وعدم قبول الدعوى الجنائية المرفوعة ضد الفريق شفيق و10 آخرين من أعضاء مجلس إدارة الجمعية التعاونية لإسكان الضباط الطيارين اتهموا بالاستيلاء على المال العام والتزوير والتربح وغسل الأموال بما قيمته 35 ملىون جنيه، وإخلاء سبيل المحبوسين احتياطيا على ذمة تلك القضية. - حفظ 30 بلاغا مقدما ضد المستشار أحمد الزند رئيس نادي القضاة اتهمته بالتحايل على القانون واستغلال النفوذ للحصول على مساحة 264 فدانا في محيط بلدة الحمام التابعة لمحافظة مرسي مطروح. وقد أثار الانتباه في هذا الصدد أن حفظ تلك البلاغات قد تم يوم الخميس 19/ 12، وقبل أربعة أيام من موعد نظر قضية أخرى كان قد رفعها المستشار الزند ضد المستشار هشام جنينة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، اتهمه فيها وآخرين بإهانة القضاء. وكان المستشار جنينه قد أدلى بحديث إلى صحيفة المصري الىوم ذكر فيه أن المستشار الزند وبعض أعضاء مجلس إدارة نادي القضاة قد تكسبوا من مواقعهم. فما كان من الأخير و8 من أعضاء مجلس إدارة النادي البالغ عددهم 14 عضوا إلا أن قدموا بلاغا ضده بالتهمة سابقة الذكر. وتحدد يوم 25/12 لنظر القضية. - صدور قرار هيئة المفوضين بمجلس الدولة برفض دعوى قدمت لمنع قيادات الحزب الوطني الذي كان ذراعا سياسية لنظام مبارك من الترشح لانتخابات مرحلة ما بعد الثورة على نظامه. - قرار المؤسسة الأمنية بمداهمة مقر المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والاعتداء على العاملىن فيه، عشية تنظيم مؤتمر للتضامن مع العمال المضربين في بعض المصانع. وهو ما تزامن مع اعتقال عدد من النشطاء الذين عارضوا قانون التظاهر، وهذه المداهمة الأولى من نوعها في ظل نظام الثالث من يولىو. وكانت قد تمت مداهمة مركز هشام مبارك في عام 2011. وحدث ذلك أيضا في العام التالي. حين جرى بعد ذلك الاعتداء على مركز استقلال القضاء والمحاماة. ما هى الصورة التي ترسمها هذه التفاصيل؟ ردي على السؤال يبدأ باستحضار قانون منع التظاهر ويذكر بالحديث عن قانون الإرهاب، ثم ينبه إلى أنها جميعا تصب في مجرى ترتيب الأوضاع تحسبا لتداعيات واستحقاقات السنة الأولى من عمر النظام الجديد، ذلك أننا مقبلون على ثلاثة استحقاقات انتخابية، الاستفتاء على الدستور، والانتخابات التشريعية والرئاسية أيهما أسبق التي يراد لها في النهاية تحقيق أمرين أولهما تثبيت دعائم النظام وإخراج الإخوان من المشهد السياسي. ولأن القضاة هم الذين سيشرفون على الاستفتاء والانتخابات فيتعين تأمين تلك الساحة، من خلال تبرئة الذين سبق اتهامهم بالتزوير، وهو ما يتضمن رسالة تحذير ضمنية لكل من تسول له نفسه أن يتطرق إلى الموضوع. وفي هذا السياق يأتي “تأديب” القضاة الذين انحازوا إلى مسألة الشرعية والتنكيل بهم، وفي نفس الوقت تتم مجاملة نادي القضاة وإغلاق ملف اتهام قياداته، خصوصا أن القضاء يؤدي دورا مهما في تقديم الغطاء القانوني لمختلف الممارسات الراهنة، ولحبك المشهد فلا بأس من توجيه الاتهام إلى رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات الذي يمكن أن يشكل عقبة في طريق “المرونة” المطلوبة لتحقيق استحقاقات النقلة المتوقعة. ولتعزيز الدفاعات في مواجهة الصراع المفترض مع المعارضة، فلا بأس من تهدئة جبهة الاشتباك مع الأطراف الأخرى من خلال مهادنة نظام مبارك ورموزه. أما المنظمات الحقوقية التي قد تنغص على اللاعبين دورهم، فقد وجهت إلىهم رسالة التحذير المناسبة. قد تبدو هذه قراءة غير بريئة للمشهد، وهو ما أعترف به، مذكرا بأن الأصل في السياسة هو عدم البراءة وعلى من يشك في ذلك أن يثبت العكس.