هل سيجد العالم ما يكفي لأن يأكل؟ السؤال القاسي هذا يبدو منطقيا جدا في ظل وجود ارتفاع مهول ومرشح للاستمرار في أسعار سلع زراعية وغذائية حيوية مثل القمح والشعير والبقول واللحوم، وذلك لأسباب مختلفة ومهمة، سواء أكان الأمر متعلقا بنقص في الموارد المائية وجفاف في التربة الزراعية، أم مشكلات سياسية وحربية أثرت على استقرار المنتجات والصادرات تماما مثلما يحدث الآن في أوكرانيا وتأثير ذلك على أسواق القمح الدولية وحصول تقلبات في مواعيد التسليم للمحاصيل وتقلبات في الأسعار بشكل لا يمكن إغفاله، وكذلك الأمر يحصل مع محاصيل الذرة، وهي بالأساس عنصر غذائي متكامل ويستخدم في العديد من الوجبات والأكلات في دول أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية، وغيرها من الدول، وهي اليوم أصبحت مكونا أساسيا في الطاقة البديلة حينما تمت إضافتها لوقود السيارات لتخفيف الاعتماد على النفط التقليدي، ولكن هذا كان على حساب الاحتياج الغذائي الدقيق والحساس والمطلوب. ومع نمو النهج الاستهلاكي في الصين وحراك الهجرة الهائل من القرى والأرياف إلى المدن كسبا لفرص العمل الأفضل ذات العوائد المالية الأعلى، انفتحت شهيتهم وبشكل هائل على اللحم البقري، وهو المذاق الجديد عليهم تماما، ولحق ذلك ارتفاع مهول في أسعار اللحوم، ومن المتوقع أن يكون ذلك الأمر ثابتا لفترة ليست بالقصيرة. المياه وندرتها، وهجوم البشر على الأراضي الزراعية للسكن فيها، مشكلتان متفاقمتان تجعلان مسألة الأمن الغذائي، تحديدا، لا تقل أبدا عن تحديات التعليم والصحة والقضاء ومكافحة الإرهاب. واليوم يستعد العالم لمواجهة أزمة غذائية حادة جدا في سلعة الأرز. الأرز سلعة غذائية عظيمة يعيش حولها مزارعون أكثر من 510 ملايين نسمة (معظمهم في قارة آسيا بطبيعة الحال)، بينما يعيش حول سلعة القمح مثلا 380 مليون نسمة. محاصيل الأرز بسبب اعتمادها الهائل على المياه هي الأكثر تهديدا من تداعيات ظاهرة الاحتباس الحراري وثقب الأوزون والتبعات البيئية الحادة لذلك، وهو ما يؤدي إلى تقلص الرقعة الزراعية المصاحبة لها. والأرز وجبة أساسية في العالم العربي، فلا يوجد بلد عربي إلا والأرز على موائده وأطباقه، كالسليق والبخاري والكبسة والمكبوس والمحاشي والكشري.. وغيرها، وبالتالي الأثر القادم من المتوقع أن يكون عنيفا، وأكبر الدول المنتجة للأرز بدأت تدرك ”الكارثة القادمة”، بحسب ما وصفت، وتحاول الاستعانة بالهندسة الوراثية لتطوير حبة الأرز وتكبيرها و”تكثيف” المحصول على الرقعة الزراعية نفسها. ولعل أبرز الدول المهتمة بذلك الهند وتايلاند، اللتان تسابقان الزمن لتحقيق إنجاز نوعي في هذا المجال. هناك قاعدة معروفة في مجال زراعة الأرز؛ إذ كلما زاد سكان العالم مليار نسمة، زاد الطلب على الأرز بمائة مليون طن.. هذه هي القاعدة. اليوم يستهلك العالم 450 مليون طن، ومن المتوقع أن يزيد ليصل إلى 500 مليون طن في عام 2020، و555 مليون طن بحلول عام 2035، مما يعني أن هناك زيادة سنوية متوقعة بنسبة 1.2 إلى 1.5 في المائة. هذا النمو منطقي ومعقول إذا واكب ذلك نمو وتوسع في أحجام حقول الأرز، إلا أن هذا الأمر لا يحدث أبدا، بل على العكس تماما. الغزو المهول الحاصل في آسيا، خصوصا في الصين، لحقول الأرز لأجل البناء، مسألة لها أبعاد خطيرة آسيويا وعالميا، خصوصا على مكانة الأرز العميقة جدا في التراث والثقافة الآسيوية.. لا يمكن للغريب عن آسيا أن يفهم ذلك؛ فمثلا كلمة ”تويوتا” تعني ”حقل الأرز الغني”، وكلمة ”هوندا” تعني ”حقل الأرز الرئيسي”. القصور الكبير المتوقع في إنتاج الأرز ستكون له أبعاد جيوسياسية، وسيتسبب في أزمة هائلة داخل الصينوالهند، وهي مسألة بدأت تقلق بشدة الحكومتين. آسيا تصرف الملايين على حقول الأرز فيها لإحداث ”ثورة خضراء” لتمكنها من إنقاذ الحقول وتطوير المحصول ومضاعفته بندرة مياه وقلة أراض وهندسة وراثية علمية متطورة.. إنه سباق هائل مع الوقت يراقبه العالم بجوع وخوف ونهم. المسألة أكبر من وجبة على صحن طعام.. إنها أمن ”غذائي”.