و”بنات إسكندرية” اسم لأغنية جميلة تتمايل لها الرؤوس. وهو أيضا عنوان لكتاب من تأليف إدوار الخراط، الروائي المصري الذي وصف المدينة التي ولد فيها بأن ”ترابها زعفران”. كان النطق باسمها يكفي لكي يلهث الخيال وراء فصول من الصور والأسماء والروائح والحوادث التاريخية الفذة. إنها المدينة المتوسطية التي منحت العالم شخصيات لا تنسى، ولدت في أحضانها، أو أقامت فيها، أو مرت بها مرور الكرام الذين اعتبروا كل لحظة فيها عمرا. من شواطئها الدافئة، وصلت إلى باريس مجموعة من ”بنات إسكندرية” اللواتي تقول الأغنية بأن عشقهن حرام. بينهن ثلاث نساء سجلت كل منهن سيرة تستحق أن تتحول إلى فيلم؛ الأولى هي إجلال فرحي، السيدة التي تقوست تحت أعوامها التسعين وهي تحنو على ”النيو مورننغ”، أشهر منتدى لموسيقى الجاز في العاصمة الفرنسية. لقد أسسته أوائل ثمانينات القرن الماضي، واستقبلت فيه كبار هذا الفن من العازفين والمغنين الذين وقفوا على مسرحه الدائري الصغير، ونفخوا في الأبواق، وأطلقوا نداءات تشبه الفحيح وتسلخ القلوب. وثانية ”بنات إسكندرية” هي غابرييل أغيون السكندرانية التي تجاوزت التسعين، أيضا، وما زالت تتمتع بآثار جمال ذي نكهة متوسطية. لقد ولدت في كنف أب كان يملك مصنعا للسجائر في الإسكندرية، أورث ابنته حب العمل، وكان يكافئها على اجتهادها بأن يوفر لها اشتراكات في المجلات النسائية الفرنسية. لقد عاشت صباها وهي تحلم بأن ترى باريس. فلما تزوجت وتحقق حلمها، دأبت على ارتياد مقاهي حي ”السان جيرمان”، لكي تتعرف على الأدباء والفنانين الذين كانت تقرأ عنهم. وهكذا ارتبطت بصداقات مع الشعراء إيلوار وأراغون وكوكتو. دارت بنت إسكندرية تتفرج على الواجهات الخلابة لكبار مصممي الأزياء. وصعد الدم إلى رأسها، ذات يوم، وقررت أن تكون واحدة منهم، وأسست شركة ”كلوي” للأزياء. وطبعا، كانت تتمنى لو حملت الدار اسمها، لكن شهرة غابرييل كانت محجوزة للآنسة كوكو، صاحبة تصاميم ”شانيل”. وسرعان ما نجحت العلامة التجارية الجديدة في خوض مغامرة ”الثياب الجاهزة”، وكانت أزياؤها جامحة تتمرد على القوانين التقليدية للأناقة، يرسمها شبان جدد، من أمثال كارل لاغرفيلد، وفونتانا، وفيما بعد ستيلا مكارتني. ثالثتهن هي تيريزا كريميسي، سليلة واحدة من الجاليات الأوروبية الكثيرة التي أقامت في مدينة فتحت صدرها لغرباء ذابوا فيها وما عادوا غرباء. وكان أبوها الإيطالي قد تعرف على والدتها التي كانت نحاتة من إسبانيا، أخذت سمرتها عن جدة ذات أصول هندية مولودة في بغداد. لكن العائلة غادرت الإسكندرية في حرب السويس، أواسط الخمسينات، وذهبت البنت الشابة إلى ميلانو لتدرس اللغات، ولتعمل في نشر الكتب وترتاد معارضها وصالوناتها. وفي معرض فرانكفورت للكتاب، تعرفت تيريزا كريميسي على الناشر الفرنسي الشهير أنطوان غاليمار، ولفتت انتباهه بحيويتها، فدعاها إلى باريس، وجعلها مديرة للنشر عنده. تألقت كريميسي وهي تدير منشورات ”غاليمار”، وتمتعت بذائقة حادة أتاحت لها اصطياد كتاب مغمورين صاروا نجوما في سماء الأدب، نالوا أرفع الجوائز، وحققوا ثروات لناشرهم. لكن بنت إسكندرية اختلفت، ذات يوم، مع رئيسها أنطوان غاليمار، وخرجت من المكتب وصفقت الباب وراءها. ولعل الناشر المرموق تصور أنها ستعود في اليوم التالي. وفي اليوم التالي حدث ما يشبه الهزة الأرضية الصغيرة في الوسط الأدبي، عندما أعلنت دار النشر المنافسة ”فلاماريون” عن تعيين تيريزا كريميسي مديرة لها. ماذا تقول كلمات الأغنية، أيضا، عن بنات إسكندرية؟ ”يلبسوا الشاهي بلولي، ويلبسوا الكشمير بتلي، والشفايف سكرية”.