حد دقيق جدا، رفيع جدا كقشرة برتقالة تعتقت، لا يكاد يفصل و لا يكاد يبين بين ما يجب أن ينقرأ و ما لا يجب، بين ما يمكن تداوله و التداول عليه و بين ما لا يمكن حتى تصفح فهارسه أو التلصص على مضامينه، يتقدم النص المكتوب في العالم العربي خجلا يتوارى، منكمشا، مصعرا خده، ثم تأتي اللوائح و المرجعيات كي تعقب، أو تؤول أو تسمح، بين النص و اللائحة، علاقة باطنية، علاقة عذاب و شقاءات، علاقة قط يرصد فأرة المنزل المتسللة، علاقة حب و خرمشة بالأصابع و بالأرجل، استثناء لم يستطع الرقيب أن يمسك بأسرار عمله و تفاصيله، فالنص المكتوب قادر على المناورات و التحليق أكثر لكن مكاتيب العرب هي الأخرى غير متمرنة على إرباك الجزئي و الإنسحاب التكتيكي و تقدير المخاطر، فالعالم العربي جانح نحو يساره دائما، نحو آخر يساره أو جانحنحو يمين اليمين ولا يتقن فن اللعبة من الداخل، طبعا الإستثناءات كانت تحضر حتى و إن لم تسد، بل تفرق شملا وتطرح جدالا وتخطب ودا لا يستحق و ترتكس براية أو بدون راية·· تنقسم الكتابة على قسمين، قسم يلعب فوق الطاولة، متحرر عالي النباهة، غير مبال، و لا يعرف نظرية التكيف مع المسموح، قسم ثان، غشاش، مخاتل، هاوي تدويخ، أو فهلوي، شاطر، يفري فريه كعبقري، يقول كلام يرضي الرقيب و مع الجمهور له السلامة والحماية من قطاع الطرق· ثالثة الثلاثة في العملية كلها، أن الكاتب فيما يقول مسكون من داخله بعفاريت صامتة من المس، إنه مهجوس، مرصود، مراقب، متابع، يخشى الكاتب أن يلاعب قوى الأمن التي تحت قلبه أو لسانه أو عقله، الحاصل أن الكسب تحقق و المهمة انتهت فمن يشرف على اللائحة لم يزد على النص غير جرة قلم بالأحمر··/هذا النص لا ملاحظة عليه/··· ثالثة الثلاثة في العملية كلها أيضا، أن الرقيب لا يبدو سعيدا، عمله يتضمن المحدودية، له حراك ملتوي، مشية عرجاء، و قلم أحمر لا يستطيع أن يخاتل، أن يكتب نصا آخر يحذف ما حذفه، يؤشر فقط بالأحمر، هذا ما عليه أن يؤديه، و لذلك اشتهرت النصوص الممنوعة أكثر و عاشت أكثر، و عاش على خبزها ونبيذها كما على لحمها و بصلها ناشرون كثيرون، و أهل نقد و تأويل، ومناصصون و أدعياء و كتبة صغار و رقباء، إن الكتب الجيدة و النافعة ظلت هي أيضا مهددة، مروعة، فهي ليست أصولية، طائفية، اتنولوجية، انقسامية، ادعائية، و ليست خلاعية، بورنوغرافية إباحية، تستفز فاحشة المقص أو الخنجر أو المسدس و حتى الدبابة· إن فكرة /الكتاب النافع/ يجب أن يعبر دون حدود محفورة في ذهن المتلقي الجيد، ولا يعني أن الغوغاء يقدرون على التمييز إذا قمنا و شرحنا لهم ماهية عمل أدبي سامي، أو معرفة تتضمن حقائق، أو نص ديني ثابت، قطعي، لا اجتهاد فيه وهكذا دائما تصير المراوحة و السكونية، الكاتب هناك يكتب وينتظر و الرقيب يريق لعابه، أحمره بين أصبعيه و على عينه الشرر الكبير و الخير العام·· فتش في المحرمات، في الأقنوم الثالوثي، وستجد ساحة لمعركة ناشبة، كبريت يولع في كل الجنبات، و اللهيب المقدس هو عنوان و شارة·· نحن العرب لنا قصة طويلة، انقلابية، مضحكة أيضا في مقارباتنا مع المسموح و مع اللا، كلما تجرأ النص أكثر، تاه أكثر، لم يعرف ما الذي يريده، فإن الحرية التي يمجدها كتابنا و يتهدهدون بشراشفها البيضاء، حرية لا يستطيعون أن يكونونها و لا أن يمثلوها و يتمثلوا نظامها و قوانينها، يقودون معركة من أجل سكب القهوة السوداء على أحذيتهم و على أحذية غيرهم، فإذا قدرت و فكرت أنا كما يفكر و يقدر غيري وجدت البون الشاسع و مقدار التفاصل كبير بين النصوص و مضامينها و بين كتابها و سلوكهم الجامح هؤلاء الذين طالما احتجوا على المقص أو الحذف أو التعمية أو ما إلى هنالك من أشكال السطو على المكتوب و حضارة المكتوب·· هؤلاء هم أنفسهم ينتجون الرقابات و قوانين المنع و طقوس المبايعة لما هو شاذ أو غير ديموقراطي أو مضاد للهيئة الإجتماعية و الأعراف العامة و آدابهم، ويكفي ذلك للقول أنهم قد انتحلوا، أو اختلسوا أو صادروا أو ماطلوا أو تذاكوا مع نصوص غيرهم و فتحوا على أنفسهم مداخل الريبة و الظنون· إنه هو بعينه باطل الأباطيل يحدث بين الكتاب و ما بين نصوصهم من إلغاءات و إهانات و اخفاءات و ملاحقات تصل إلى اليتم و تمر بالتشريد و قد تمر بالإعتقال الرمزي لكتب نافعة جيدة، غير امبريالية، و تطرح أسئلة جديدة و حيرة مشروعة و هنا الأخلاقيات و الديونتولوجيا déontolgie لا تكون مع الرقيب و لوائحه فهو يمثل الخير العام، الرسمي، الدائم، أو المؤقت مع تعرضه للزلل أو الوقوع في منع المعرفة الحية التي تسمح بها ليس فقط الديموقراطيات الغربية بل أيضا الديكتاتوريات الشعبية·· حكى لي ناشر عربي معروف عن مفكر و فيلسوف عربي معروف أيضا رفض و غضب و عصب من نشر أعمال زميل له يؤسس لمشروع مغاير و كتابات متعاكسة و موضوعات لا تمسه شخصيا كلقب جامعي بل قد تذهب مذهبا آخر في المعرفة·· إن عبد الصبور شاهين المفكر الإسلامي، و واحد من المهتمين بنشر فكر مالك بن نبي و ترجمته تناغم أيما تناغم في احتجاجاته مع الجماعات التي انهالت على نصر حامد أبو زيد و اجتهاداته بالنكرانية و التلطيخ في الوحل و الشتائم و التكفير وصولا عند دعاوى التفريق عن زوجته ابتهال يونس، مع هذه الجماعات الإسلامية المختلفة -و بعضها جهادي- كان أيضا في الموقف المستشار سليم العوا و المفكر طارق البشري و فهمي هويدي و أقلام آخرين معروفين في مصر و في العالم العربي بوسطيتهم و اعتدالهم و نأيهم عن أفكار الجهاديين لكن المخادعات و الدوافع الشخصية الخفية تجعل دائما الكتاب العرب بعيدين كل البعد عن ما يجمعهم أكثر، الديكتاتورية في المعنى و التأويل، العنف اللفظي، الآراء الظلامية و مفاهيم كثيرة أخرى· إن عبد الصبور شاهين هذا هو الذي سيتعرض كتابه فيما بعد، المعنون ب /أبي آدم/ إلى صخب و مطاردات أغبياء و سباب و لعان و تفسيق مما يكرهه النبي(ص) و الله و الملائكة تتشبه الكتابة بملعب كرة القدم كما كان يقول جاك دريدا دائما لها المرمى، الفريقان، الجمهور، و خطوط التماس لها الحكم و الصفارة و من هو وراء الحكم و وراء الصفارة، داخل الأمتار المربعة أو المستطيلة يمكن للكاتب أن يسوح، أن يسافر برأسه و أن يسجل أهدافا و قبل ذلك أن يراوغ، فقط أن الكتابة حرة، في لباسها، في مراوغاتها، حتى في شتائمها فقط أن لا تطال العرق و الدين و النسب و الدولة و إقليم الدولة، الكاتب حر داخل ملعبه و عليه أن يتجنب خط التماس و البطاقات و ما يؤجج فاشستية الجمهور، هذه المقاربة ضرورية و أخلاقية عند الشبر صفر من البياض و من أرض الكتابة و عند أشبار ما بعد المليار من الحريات، لا تكن أصوليا تماميا، تحتكر الله و الأخلاق و الوصاية و من وصاك أيهاالكاتب و لا تكن الظلامي، الهالك للملذات و للأفراح و لأعراس الكلمات،لا تكن كما كان يقول دائما المفكر الليبي الصادق النيهوم كمن يسرق الجامع و الجمعة و الصلاة، و سجادة الصلاة، لا تكن كحال الخلاعي، من ينكل بالموتى و بالجثث و بالكرامات، لا تكن البادئ بذكر الأسماء دون احتراز غير آبه بالمعابد و لا بمخادع النوم و أسرة الهانئين اللامبالين الذين لم يغمزوك أو يلمزوك· ليس شأنا عظيما و لا هو الخطب الجلل أن يحذف من الرفوف كتابا من كتب صادق جلال العظم أو سيد قطب أو فراس السواح أو ثلاثية هنري ميلر أو بنات الرياض أو أبناء الخطأ الرومنسي أو كتاب النبي لجبران خليل جبران، أو كتب إيليا حريق أو راشد الغنوشي، فإن صفارات الإنذار موجودة دائما و فقاعات الهواء موجودة دائما و العسس هم، هم كما هم، عليهم أن يصدروا اللوائح الثانية يعد الأولى لجماية الخير العام و نشر الفضيلة و زجر المخالفين، الكتابة هي هكذا قدريا فعل تكثيف دائما داخل مساحة العشب المسطور، فإن الفرنسيين و هم حملة أدب و جماليات عانوا من النصوص المهربة التي كانت تصل إليهم عبر مغامرات المكتبيين و لم يكن ثمة استثناء مع لويس آراغون أو أندري جيد أو بول ايلوار أو فرانسوا مورياك، أو ثمة استثناء مع /دار امينوي/ ، /أو /جوليار/ أو /عاليمار/ أو /فلاماريون/ أو /لوسوي/ · لقد حاول الألمان ذات مرة /اقناع صناع الكتاب بحسنات الجهاز القمعي القائم/ فأشركوهم في الرقابة و وقعوا معهم الإتفاق حول رقابة الكتب و كان ذلك في 28 سبتمبر 1940م و هو الذي سيسمح لهم بالإستمرار في النشر، و هكذا خطوط التماس التي يتساوى معها الكل في العمل الكتابي بين من يحمل فقط شهادة لا إله إلا الله، و شهادة التطعيم ضد الحصبة و من يحمل شهادة دكتوراه من جامعة السوربون، الكتاب هكذا لمن يحبه إنه كالزواج، قفص ذهبي لا غيرنحبه كثيرا، نحبه جدا و علينا أن نتحمل···