ليس سرا أن شعبية الرئيس الفرنسي في الحضيض، والدليل ما يكتبه عنه المعلقون في صحف بلاده، لكن من غير المعهود أن يتفرغ صحافي معروف لكي يكتب نصا طويلا من نوع الخيال السياسي، يسجل فيه وقائع خروج فرنسوا هولاند من السلطة وتخليه عن مقاليد الحكم.. متى؟ في العام المقبل؛ أي قبيل انتهاء ولايته بسنتين، وكأننا نعيش في الزمن الآتي. خلال الشهر الحالي، كان من حظ قراء ”الفيغارو” مطالعة الرواية المثيرة التي نُشرت مسلسلة تحت عنوان ”هولاند يمضي”، بتوقيع مستعار هو ”فيليبولوس”. إن صفة ”مثيرة” لا تعني أنها من ”تسالي” الصيف بل أخاذة، فالكاتب اختار أبطاله من الشخصيات السياسية الحقيقية غير النمطية؛ أي تلك التي تمتلك من المواهب والألوان ما يسمح بملاعبة المخيّلة الروائية وترتيب الأحداث ببراعة لا تخلو من سخرية لاذعة. إن الصحيفة يمينية ومن الطبيعي أن تنتقد سياسة الرئيس الاشتراكي في كل عدد من أعدادها، لكن الكاتب لا ينتقد بشكل متهافت، بل يلجأ إلى تلك المماحكات الذكية الراقية التي يختارها الفرسان لتصفية حساباتهم. لذلك اختار أن يجعل من جاك أتّالي محورا أساسيا للرواية. وأتالي، ولعل اسمه الصحيح عطّالي نظرا لأنه مولود في الجزائر لعائلة يهودية، مثقف وخبير لمع اسمه عندما اختاره الرئيس الأسبق فرنسوا ميتران مستشارا اقتصاديا له. تبدأ أحداث الرواية أواخر عام 2015، برجل يعزف على البيانو مقطوعة لفرانز شوبير (الموسيقار الذي رحل عن 31 عاما قبل أن يتذوق السعادات الأكثر بساطة)، إنه جاك أتالي، يمرر أنامله على لوحة المفاتيح بطلاوة، مستمتعا بهدوء المساء في شقته الواقعة في بناية تكاد تخلو من ساكنيها، إن واجهتها، مثل واجهات المباني المجاورة في الحي الراقي، تحمل لافتات ”للبيع”، فالأثرياء يبيعون شققهم ويفرون من باريس ليستقروا في بلدان ذات قوانين ضرائبية أكثر رأفة. ثم يرن الجرس دون انتظار ويقلق خلوة الموسيقى المحركة للفكر. صاحب البيت: من يكون ذلك الزائر الليلي المتطفل؟ يتردد العازف قبل أن يقوم متمهلا ليفتح الباب. ليس هناك أحد. يطل من أعلى السلم فيرى شخصا يرتدي خوذة مستخدمي الدراجات، ينسلّ نازلا بعد أن سئم الانتظار. إن أتالي يعرف هذه القامة وقد استدل على صاحبها من حركاته. ”أهذا أنت يا فرنسوا؟”. ماذا جاء بالرئيس يطلب في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ نحن في باريس، لا في تونس ولا في القاهرة، ومن المستبعد أن تنزل الحشود إلى ميدان قوس النصر حاملة لافتات ”ارحل”، والانقلاب مفردة من قاموس العالم الثالث، وهولاند لن يأخذ طائرة تنقله إلى الخليج، وهناك مجلس دستوري وبرلمان وقضاء إداري مستقل وصحافة لا يفوتها شيء، والقرار لن يأتي من الشارع، وحده الفشل المهين في إدارة شؤون الحكم يمكن أن يطرد الرئيس من ”الإليزيه”، بمحض إرادته. هل يملك الخبير الاقتصادي اللوذعي جاك أتالي أن يقدم المشورة لفرنسوا الواقف ببابه، مثلما سبق وقدمها لفرنسوا آخر قبل 30 سنة؟ لم يسأل القراء: من هو ”فيليبولوس”؟ فقد نجح الفضوليون في إماطة اللثام عن الكاتب الذي يتخفى وراء الاسم، إنه بول هنري دولامبير، المعلق السياسي ونائب مدير ”الفيغارو”، وهو قد اختار التوقيع المستعار من اسم شخصية وردت في سلسلة ”تانتان” الشهيرة لصاحبها هيرجيه، وهيرجيه نفسه اسم مستعار للمؤلف والرسام البلجيكي جورج بروسبر ريمي، وهنا يبدو جاك أتالي الوحيد القانع باسمه الصريح رغم أنه شخصية متعددة الأوجه والاهتمامات، فالراوي يقدمه على أنه كاتب، وفي أوقات الفراغ فيلسوف، وعالم اجتماع، ومؤرخ، واقتصادي، وعالم نفس، وجغرافي، إنه يلم بكثير من العلوم؛ بحيث إن حساده يطلقون عليه صفة ”توتولوغ”؛ وهو اشتقاق لغوي ماكر يعني المتخصص في كل شيء. مثل العرب، يعشق الفرنسيون اللغة ويعتمدون على بلاغة الخطاب في تمويه الأزمات، إن الهزيمة تتحول إلى انتصار، والتنازل اقتدارا، والقتل جهادا، ولكن العصر تغير ولم يعد الطباق والجناس والتورية وكل المحسنات البديعية صالحة لتجميل الصورة، نحن أسرى الصورة التي تغني عن ألف مقال، نلهث وراء ثورة التواصل التي سمحت لأي كان بإسماع صوته حيثما كان، لهذا فإن تعليقات القراء تواترت بعد نشر كل حلقة من رواية تخلي هولاند عن مهماته الرئاسية، وكتب أحدهم: ”ومتى تولاها ليتخلى عنها؟”.