تعدُّ القراءة من أهمِّ وسائل كسْب المعرفة والحصول على المعلومات؛ فهي تمكِّن الإنسانَ من الاتصال الوثيق بالمعارف الإنسانية في ماضيها وحاضرِها، إلى جانب أنَّها متعةٌ ذهنية تُعين على مَلْءِ أوقات الفراغ بنشاط معرفيٍّ مثمر، ومن هنا جاءتْ أولُ كلمة من الخالق - عز وجل - إلى نبيِّه محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - على لسان جبريل - عليه السلام - (اقرأ)، وكرَّرها ثلاثَ مرات قبل أن يطيع النبي - صلَّى الله عليه وسلم - هذا الأمر الإلهيَّ: ”اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ” [العلق: 1 - 5]، فأوَّل خطاب وُجِّهَ إلى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان أمرًا بالقراءة، وحديثًا عن القلم والعِلم، وظل سلَفنا الصالح - رضوان الله عليهم - في ظل هذه الكلمة العجيبة (اقْرَأْ) ينهَلون من منابع العلوم والمعارف الشرعية والعلمية والأدبيَّة؛ حتى استطاعوا إقامة حضارة عظيمة، انتشلوا بها البشريةَ من بحور الظلم والتخلُّف، إلى شُطآن العلوم والمعارف، أمَّا في العصر الحديث، فقد توقَّف المسلمون عن القراءة والاطلاع، حتى أصبحت أمَّة (اقرأ) لا تقرأ؛ حتى سبَقَها إلى ميادين القراءة والاطلاع أُممٌ وشعوبٌ أخرى، شجعتْ على التعلُّم والقراءة والاطلاع الحرِّ في شتى مجالات الحياةِ؛ مما أدَّى إلى تفوُّقهم وريادتِهم.. حالة القراءة في العالم الغربي وقبل أن نعرض لحالة القراءة في العالم العربي، نتعرف على حالة القراءةِ في بلاد الغرب، ففي أمريكا تُشير الإحصاءات التي نشرها معهد جالوب أن ”39 %” من الأمريكيين يقرؤون، وأن خرِّيجي الجامعات يقرؤون 25 كتابًا في السنة، مقابل 15 كتابًا في مختلف المعارف لِمَن تلقَّوْا تعليمًا غير جامعي، وأن ”89%” من الأمريكيين يدفعون أولادهم للقراءة؛ لاعتقادِهم أن فيروسات القراءة يجب أن تصيب الأطفال في سنٍّ مبكرة. وفي روسيا: بلغ عددُ الكتب الصادرة عام 2003 م (80290) كتابًا، طُبع منها (720) مليون نسخة، وأنَّ هناك روسيًّا يقرأ من بين 3، وأنَّ عددَ القراء الروس يبلغ 33%. وفي إسرائيل: كشف تقريرٌ أن إسرائيل من بين أكبرِ عشْر دول في حجم النشر والترجمة في العالم، حيث باعت عام 1997م ما قيمة 13 مليون كتاب؛ أي: بمعدَّل ثلاثة كتب في العام للشخص الواحد، و100 كتاب جديد لكل مليون نسمة، وأنَّ الإصدارات السنوية لكثير من دور النشر الإسرائيلية تزيد عن 150 عنوانًا، وأنَّ الكتب الجادة في إسرائيل تصدر فيباع منها بسهولة عشرون ألفًا أو يزيد من النسخ. حالة القراءة في العالم العربي وإذا ألقينا نظرة إلى حال الكتاب في عالمنا العربيِّ، نجد أن العالَم العربي من حيث إصدار الكتب تعِسٌ فقير، وأن أيَّ عمل جاد يصدر لا يطبع منه أكثرُ من خمسة آلاف نسخة في الحد الأقصى، وهذا يعني: أن كتابًا واحدًا لكل 32 ألف شخص في عالَمنا العربي، بل وصلت أرقام طبع الكتب في بعض الدول العربية الكبرى إلى مستوًى متدنٍّ، ففي مصر إلى نحو ألف نسخة، وفي سورية إلى نحو: خمسمائة نسخة. كما تشير إحدى الدراسات المهمة أنَّ إجمالي ما نشر من كتب في العالم العربي عام 1992م، الذي يبلغ عدد سكانه 250 مليون نسَمة - 6759 كتابًا، وهذا رقمٌ ضئيل يعادل نسبةَ السُّدُس مما تصدره إسبانيا، التي يبلغ عدد سكانها 39 مليون نسمة.. ويُظهر لنا هذا العرضُ الإحصائي عن حالة القراءة في عالَمنا العربي، كيف أنَّ مستوى الإقبال العربي على القراءة قليل جدًّا ومتدنٍّ، ولا يكاد يقارَنُ بنظيره على المستوى العالميِّ.. أسباب العزوف عن القراءة في عالمنا العربي وإذا حاولنا البحث وراء أسباب تدنِّي مستوى الاطِّلاع والقراءة في عالمنا، فإنَّنا نرجع ذلك للأسباب الآتية: 1/ ارتفاع مستوى الأمِّيَّة في عالَمنا العربي، والتي لا تزال أعلى من المتوسِّط الدولي، وحتى أعلى من متوسِّطها في البلدان النامية، فعالَمنا العربي دخل القرن الحاديَ والعشرين وهو مثقَلٌ بعبء 60 مليونَ أمِّيٍّ، معظمُهم من النساء!!.. 2/ انتشار الأمِّية الثقافية بين المتعلمين، ونقصِد بهذه الأمِّية اكتفاء شبابِنا ممن نال قِسطًا من التعليم في المدارس والجامعات بألِف باء الثقافة، وتوقُّفهم بعد انتهاء مراحل تعليمهم من ورود منابع الثقافة الحرَّة، والاستزادة من العلم والمعرفة. 3/ إخفاق المناهج الدِّراسية في تشجيع النشْءِ على القراءة والاطِّلاع.. الأمر الذي أدَّى في النهاية إلى انحسار الحصيلة اللُّغوية لدى الدارسين، وإضعافِ قدراتهم التعبيرية والإبداعية، وأوجدَ عازلاً معنويًّا بين الدارسين ومستقبلِ علاقتهم بالكتاب، ونفورهم في النهاية من عالَم القراءة بمجرَّد انتهاء المراحل التعليمية في المدارس والجامعات. 4/ ظهور الوسائل الإعلامية من تلفاز وفضائيَّات، التي استهلكت حيِّزًا كبيرًا من وقت الناس، وأسهمت بشكل كبير في إقصاء الكتاب في عالَمنا العربي من مكانِه، واكتفاءُ أغلب الناس بالثقافة المرئيَّة والفضائيات، مستسلمين لجاذبيَّتها وقدرتها على دغدغة حواسِّهم، وامتصاص وقت فراغِهم، مكتفين بقشور الثقافة، مبتعدين عن فضيلة التفكير.. نحو مجتمع عربي قارئ والسُّؤال الذي يتبادر إلى الأذهان: ما الوسائل التي باتِّباعها نجعل من القراءة سلوكًا يوميًّا للإنسان العربي؟ وأرى أن هذا الحُلْمَ يتحقَّق باتِّباع الوسائل الآتية: 1/ ضرورة أنْ تقدَّم المناهج الدراسية للطلاب في صورة عصرية، تتَّسم بجاذبيَّة العرْضِ، وتحفِّز ملَكة الإبداع، وتنشِّط القدراتِ الذهنيةَ لدى الطُّلاب؛ مما يقوي لديهم الرغبةَ إلى الاطِّلاع، والانفتاح على عالَم الثَّقافة الرَّحْب. 2/ الاهتمام بالمكتبات المدرسيَّة في المؤسسات التعليمية في عالَمنا العربي؛ باعتبار أنَّ المكتبة هي الوعاء المعرفيُّ الحر الذي يفتح الآفاق، ويُثري الرَّصيد المعرفيَّ لدى التلميذ، بعيدًا عن الامتحانات.. 3/ إنشاء صندوق عربيٍّ مشترك، تُسهم فيه الحكومات العربية؛ لدعم صناعة الكتاب، وتخفيضِ ثمنه، بحيث يسهُل اقتناؤه على الطبقات الفقيرة والمتوسطة من ذوي الدَّخل المحدود.. 4/ تعميم الأندية التي تهتم بالقراءة (القرائية) في مختلف أنحاء الوطن العربيِّ، على غرار الأندية الرِّياضية التي تدعَمُها الحكوماتُ، مع وضْع برامجَ خاصَّةٍ لمباريات القراءة والحفظ، وتلخيص الكتب، واستظهار المعلومات مع تطبيقِ نظامٍ خاصٍّ لجوائز المتفوقين، وغير ذلك من دواعي النشاط الذي يشجِّع على القراءة ويحثُّ على الاطِّلاع. أخيرًا وفي النِّهاية نقول: إن الأمة القارئة أمَّةٌ مثقَّفة متفهِّمة عاقلة، إن هي أحسنت فَهْمَ ما تقرأ-ولهذا أو ما وجه الله إليه الخلق في كتابه الخاتم وجههم إلى ضرورة الاهتمام بالقراءة- حينئذٍ ترتفعُ مكانتُها بين الأمم لتصبح من الأمم القويَّة، وتعلو وترتقي قيمتُها بثقافتها وثقافة أبنائها، فتنال احترامَ الحاضر مكانًا وزمانًا؛ فيفخر بها صديقُها، ويهابها عدوُّها. مقال:خلف أحمد محمود بتصرف