مع ظهور طفرة الرقمنة في كل الأنشطة الإنسانية وتنامي قوة الانترنت يوماً بعد يوم، زادت المهام التي يقوم بها كل هؤلاء الأفراد تعقيدا، خبراء نظم الملكية مثلاً لم يعد بمقدورهم الاعتماد فقط على دفاتر الجودة التقليدية التي تفرضها صناعة النشر، إذ أصبح لزاما عليهم تقديم كمية ضخمة من المادة بدءاً من الكتب الحديثة الورقية والالكترونية وانتهاء بملايين الصفحات على الويب والمواقع الجديدة التي تتوالد كل دقيقة على الانترنت، فالنشر على الانترنت عملية كما يقول الخبراء تثير من البلبلة والمتاعب الفنية أكثر مما تثير من نظام وأريحية في الاستخدام، أما المشكلة التي تواجهها المكتبات على الانترنت، فهي أنها ترتبك أمام تحديد الآلية المثلى لتجميع المادة المطلوب نشرها وانتقاء أفضلها وأصلحها للنشر على الشبكة، وهناك أيضا مشاكل التصنيف والفهرسة وحفظ الملفات الرقمية للكتب وبدون قائمة البيانات المرفقة بأي كتاب في المكتبة العامة التقليدية القائمة التي تحتوي بيانات عن المؤلف والناشر وتاريخ النشر، وأي بيانات أخرى تظهر مع الكتاب فور سحبه من رفه والتقدم لاستعادته، هذه البيانات إذا لم ترفق مع الكتاب الالكتروني فهذا يعني تضييعها في وسط متلاطم الأمواج اسمه الانترنت، مع العلم أن إنشاء هذه القائمة في حد ذاته عملية مرهقة جداً ولم تظهر معايير ملزمة دولياً حتى اللحظة لتوحيد عملية ضبط هذه القوائم وما تحتويه من بيانات, ومع قصر العمر الافتراضي لصيغ الملفات المستخدمة حالياً وعدم إمكانية استمرار وسائط التخزين مدى الحياة تظهر إشكالية حفظ النسخ الرقمية من الكتب لأجيال المستقبل، وهذه العملية بالتحديد, ناهيك عن تعقدها فنيا تحتاج إلى تكاليف مالية جبارة. تتجاوز بمراحل تكاليف إيداع الكتب بالمكتبات العامة. لكن القيمة المفترضة من رقمنة الكتب هي إخضاع كل دوائر المعارف والمراجع والكتب والمخطوطات التي تغص بها المكتبات في كبرى الجامعات في جميع أنحاء العالم لعملية المسح الضوئي ثم انتقاء مجموعات محددة من تلك المادة لفهرستها وتبويبها وتصنيفها وبالتالي يستطيع أي فرد الوصول إلى المعلومة التي يحتاج إليها بعد توثيقها والتحقق من مصدرها وصحتها، بمعنى آخر الفارق الأساسي بين المكتبات التقليدية والرقمية هو تجميع أضخم عدد من العناوين في مكان واحد ليبحر فيها من يشاء وفي أي وقت شاء بيسر وحرية، لكن رغم ذلك يكرر السؤال نفسه: بماذا يشعر المرء وهو يتجول بين ردهات وأرفف المكتبة العامة حيث الترحاب ودفء المعاملة والمساعدة المخلصة للعثور على العنوان أو المعلومة المطلوبة، ومع زيادة الجرعة التكنولوجية في جميع مناحي حياتنا ستتغير حتما صناعة الكتب ونشرها وطريقة التعامل معها بيعاً واستعارة أو قراءة، لكن ستظل الشكوك تساورنا إذا ما كانت المكتبة الالكترونية ستوفر نفس الجو النفسي الذي يبعث على التفكير بعد قراءة سطور هذا الكتاب أو ذاك. لكن إذا كنا نناقش الكتاب الرقمي ومدى انتشاره في العالم، أليس الأحرى بنا أن نتأمل في واقع القراءة والتالي في واقع الكتاب المطبوع في العالم العربي؟ في الوقت الذي اختفت فيه الأمية في بلدان عديدة من العالم أو أصبحت ذات معدلات منخفضة جداً، فإن المعدلات في البلدان العربية ما زالت مرتفعة بل إن عدد الأميين المطلق يزداد مع الزمن وقد وصل إلى حوالي 70 مليون أمي هذا العام، وتزداد هذه الصورة قتامة حين ندرك أن معرفة القراءة والكتابة ما زالت لا تخص أكثر من 3.61 بالمائة من سكان الوطن العربي من ذوي العمر 15 سنة فما فوق، مقابل 1.71 بالمائة في مجمل الدول النامية، إضافة إلى ذلك فإن عدد الكتب المؤلفة باللغة العربية والمترجمة إلى العربية يتناقص عاماً بعد عام، وهناك آفة أكثر سلبية تكمن في عزوف المتعلمين عن القراءة حيث لم يتجاوز هذا العدد 1.1 بالمائة من الإنتاج العالمي رغم أن العرب يشكلون نحو 5 بالمائة من سكان العالم، والسؤال: لماذا لم تعد القراءة تحظى بالاهتمام المطلوب، خصوصاً من جيل الشباب العربي؟ ومن الذي رسخ في أذهان أجيالنا أن القراءة لم تعد مجدية كوسيلة تثقيف ملائمة. كلنا يعرف أن القراءة لا تزال الوسيلة الفردية الأكثر متعة للمعرفة لأي جماعة محلية أو عالمية تجمعها ثقافة أفقية عامة أو عمودية تخصصية وفي أمة مثل "أمة اقرأ" يبدو وكأن هذه الأمة قد عزفت عن القراءة، ومثل هذا العزوف عند الكبار قد يكون مبرراً، لكن أن يكون عند الشباب فهو ظاهرة خطرة من منظور صناعة المستقبل وتحتاج للعناية والدرس لمعرفة أسباب هذا العزوف عن القراءة والمشكلات التي جعلت منها قليلة الأهمية، ففي إحصائيات حديثة عن منظمة «اليونسكو» تبين أن نسبة الأمية مرتفعة في الوطن العربي وتزيد على 35 بالمائة من مجموع السكان، أما الأمية المعلوماتية فلا تزال حتى اليوم تزيد على 98 بالمائة، وبسبب تفشي ظاهرة الفضائيات تراجع عدد رواد السينما من 250 مليوناً إلى 65 مليوناً رغم تضاعف عدد السكان وزيادة نسبة الملتحقين بالتعليم، كذلك تراجعت صناعة الكتاب الورقي فهي لا تتجاوز عنوانا واحداً لكل مليون نسمة مقارنة مع 92 عنوانا في البلدان المتقدمة وحتى قراءة الصحف والمجلات انخفضت إذ لا تتجاوز حصة الفرد من استهلاك المطبوعات 1.2 بالمائة. وفي استبيان اجري حديثاً لمعرفة مشكلات القراءة عند الشباب لعيّنة تمثل 7.5 بالألف من طلاب جامعة دمشق بمختلف كلياتها وأقسامها العملية والنظرية تبين أن 20 بالمائة لا يقرؤون مطلقاً باستثناء مقرراتهم المدرسية، وهناك 20 بالمائة يقرؤون مراجع في مجال اختصاصهم فقط، أما درجة القراءة عند هؤلاء فهناك 26 بالمائة يقرؤون أقل من ساعة يومياً، ونحو 35 بالمائة بين ساعة وساعتين، في حين أن نسبة لا تتجاوز 2 بالمائة يقرؤون 4 ساعات يومياً، أما حول وسيلة القراءة المفضلة فهناك 64 بالمائة يقرؤون الصحف. وإذا كان هذا هو واقع القراءة في سوريا فإن حال المطالعة في مصر ليست أفضل حالاً، بل إن الأمر لا يتجاوز القراء العاديين ليطاول النخب المثقفة، الأمر الذي دفع رئيس اتحاد الناشرين المصريين والعرب إلى التصريح: "لم يعد احد يقرأ أساسا، وأن القراءة والكتابة هي أول شيء يعاني التراجع الاقتصادي، وأن ظروف الحياة الضاغطة على المصريين تمنعهم من القراءة"، أما تقرير التنمية البشرية العربي الذي أصدرته الأممالمتحدة أخيرا، فيرسم صورة قاحلة للحياة الثقافية في المنطقة العربية، مشيرا إلى أمية واسعة وتحول كثيرين ممن بإمكانهم القراءة إلى الكتب الدينية فقط، وأضاف التقرير أن المجموع التراكمي للكتب المترجمة منذ عصر المأمون، أي منذ القرن ال9 الميلادي حوالي 100 ألف عنوان، وهو تقريباً ما تترجمه اسبانيا في سنة واحدة، ولو توسعنا قليلا وذكرنا ما ينتج في إسرائيل سنويا فانه يصل إلى نحو4 آلاف عنوان جديد، وهذا الرقم يعادل ما ينتج في الوطن العربي كله، أما في لبنان فيكفي أن ننظر إلى المكتبات التي كانت تبيع الكتب أو تؤجرها، قد ندرك مدى تدني مستوى القراءة في هذا البلد، فقد تحولت غالبية المكتبات في لبنان إلى بيع القرطاسية وألعاب التسلية وكتب الطبخ والأبراج، ويكفي أن نذكر أن 89 بالمائة من اللبنانيين لا يقرؤون الصحف، وأن 99 بالمائة من المنازل تفتقر إلى المكتبات الخاصة، كي ندرك أن القراءة أصبحت عادة منقرضة، من دون أن ننسى أن الأمية الأبجدية في عالمنا العربي لا تعفينا من الاهتمام والاتصالات التي أصبحت اليوم سمة من سمات العالم الرقمي والذي تحتاج الجاهزية فيه إلى تكوين مختلف عن التكوين الذي تعودنا رؤيته. نخلص من كل هذا إلى أن فرصة النشر بالطريقة الالكترونية تنمو بطريقة مذهلة، وأن المبشرين بهذه الوسيلة يتوقعون انتشارها سنة بعد سنة، وحين نجري مقاربة أو تشخيصا لمشاكل النشر المطبوع يتبين لنا أن تكاليف الورق والعمال في ازدياد مطرد، وأن هذه العوائق الاقتصادية يمكن أن تكون سبباً أو خطرا على حياة الكتاب لأمد طويل، في حين أن الكتاب هو العنصر الأساسي للمدينة الحديثة، فهذا الأخير له من المزايا الملائمة ما يجعله أفضل من أي وسيلة أخرى لتخزين المعلومات واسترجاعها وأن هذا سوف يجعل من غير المحتمل التخلي عن الكتاب بسهولة، وتشير الإحصائيات إلى أن صناعة الكتاب في التسعينيات لا تختلف عما كانت عليه في العقود السابقة ما عدا سيادة المكننة أو استخدام الآلة في نقل المعلومات، ومع أن بعض الناشرين خلال الخمسينيات كانوا يخافون حلول الجهاز المرئي وتغلبه على الكلمة المطبوعة وأن الحاسوب سوف يصبح موسوعة وحتى مكتبة كاملة للمستقبل، إلا أن هذه المخاوف ثبت بطلانها حتى الآن، فالاختراعات الجديدة اصطبحت مكملة للكلمة المطبوعة بدلا من أن تأخذ مكانها، وأصبح الحاسوب أداة ذات قيمة في صف أحرف المطابع وتنظيم البيانات لنشرها وفي الأعمال الأخرى المكتوبة جميعها، وحدث الشيء نفسه عندما اخترعت الطباعة وأعطت إمكانات هائلة للكلمة المطبوعة، ورغم كل هذه المعطيات إلا أن الصراع بين الكتاب المطبوع ووسائل الاتصال الحديثة المختلفة يؤكد لنا أن العصر الآتي ليس هو عصر الكتاب التقليدي، ولكنه أيضا عصر استخدامه الالكتروني سيكون تصويرا وقراءة ومراجعة وحفظاً، فهل ينفع في هذا السياق أن نشير إلى أن الصراع بين تقنية المعلومات الآن يذكرنا بالصراع الذي حدث في القرن ال12 الميلادي بين البردي والرق والورق، وأن ذلك الصراع انتهى لصالح الورق وأدى إلى خروج البردي والرق من مسرح المعلومات ليتربع الورق على المسرح حتى يومنا هذا. اليوم يعتبر الكثير من تجار المعلومات والناشرين أن الإنترنت تشكل سوقاً إعلامية جديدة لبيع نسخ رقمية من كتب ومحتويات موجودة في السابق، وبعضهم لا يتنبأ بأي نهاية لصناعة الطباعة العريقة، ويشير الناشرون إلى أنه حتى أكثر المستخدمين شغفاً بالتكنولوجيا يفضلون الكتب المطبوعة على النسخ الإلكترونية، فالكتاب الرقمي ليس الوسيلة الوحيدة أو الأولى لإخراج الكتاب من جلده المطبوع، فالنصوص المحفوظة على أقراص مدمجة والنصوص التي ترسل بواسطة شبكة الانترنت وحتى المواقع الإلكترونية للصحف والمجلات كلها تعتبر أشكالا أولية أو بدائية هزت عرش الكلمة المطبوعة، ولكن الكتاب الرقمي قد يعتبر تتويجا لها ولعل القاسم المشترك بين الكتب التي لاقت نجاحا بالشكل الرقمي هو أن القارئ أو المستهلك يحتاج إليها ليقرأ نصا صغير الحجم، وفي كثير من الأحيان فإن هذا النوع من الكتب يتم تحديثه بشكل دوري، بالإضافة إلى ذلك فإن الكتب التي تنجح بالشكل الالكتروني غالباً ما تستخدم كمراجع وهي ليست كتباً تقرأ من البداية إلى النهاية، وربما لهذا السبب لاقت القواميس الإلكترونية نجاحاً لم تلاقه الكتب الرقمية ولا سيما الكتب المدرسية والقصص والروايات، ورغم هذه المعطيات والعوامل التي تصب في مصلحة الكتاب المطبوع، إلا أن الأسئلة تظل مفتوحة حول ما سيؤول إليه مصير هذا الأخير في المقبل من السنوات.