انحناءة لابد منها أمام روح فقيدة الجزائر التي ودعناها أمس، أمام روح جاكلين ڤروج المجاهدة الكبيرة والتي اختارت الجزائر وطنا والاستقلال بكل معانيه قضية، ناضلت من أجلها وأعطت أجمل سنوات عمرها، مع أنها لم تكن مجبرة على هذا الاختيار بحكم أصولها الأوروبية. جاكلين ڤروج رحلت أمس، في صمت، وفي شبه تجاهل تام للمرأة والمناضلة والوطنية المخلصة. فالزمن لم يعد زمن رواية البطولات والاستلهام من حياة وتجارب البطلات والأبطال. الزمن صار للارتماء في أحضان الخيانة، وبيع الذمم، الزمن صار زمن اللصوص وباعة الوطن. كان من المفروض أن تكون جالكين ڤروج وزميلاتها المجاهدات الحقيقيات من الأوربيات الأصل والجزائريات الهوى والاختيار، أن تكن نموذجا يدرس في المدارس للأطفال، وأن تقام لهن التماثيل في الساحات وأن تصور حياتهن وبطولاتهن في الأفلام، حتى تكون دروسا للأجيال في الوطنية وفي التسامح وفي الانفتاح على الآخر، فكم من الأوربيين ومن اليهود وقفن حبا وطواعية إلى جانب الثورة، وخسرن حياة أفضل ومكاسب لو أنهم اختاروا فرنسا، لكن ميزان المبادئ الإنسانية كان الأقوى، فاختاروا الطريق الصعب، طريق النضال من أجل حرية الجزائريين واستقلال الجزائر، حاربوا الاستعمار لأنه جريمة، ضد الإنسانية وانتصروا، لكن... رحلت إذن جاكلين ڤروج المجاهدة زوجة المجاهد ووالدة المجاهدة جميلة عمران (دانيال مين) في صمت، وفي تجاهل تام (باستثناء رسالة متأخرة من رئاسة الجمهورية)، لكن ماذا تمثل رسالة أمام طمس النضالات، والانحراف عن المسيرة والأهداف التي خاضت من أجلها جاكلين والأخريات نضالهن؟ فالجزائر التي حررناها ودفعن من أجلها الكثير، صارت اليوم باهتة المعالم، وتهددها مخاطر كبيرة، إرهاب وفساد وتراجع عن الكثير من المكاسب، ومنظومة تربوية عاجزة عن إنجاب الأبطال والبطلات من قامة جاكلين والجميلات الأخريات. فقيم الوطنية والنضال لم تعد عملة متداولة في السوق الآن، بل صارت الانتهازية والوصولية هي معيار النجاح. ولا أدري إن كانت جاكلين ڤروج تسمح لي أن أدرج بعدها اعترافا لسيدة أخرى رحلت قبلها بساعات، في بلاد تعيش هي الأخرى الانكسارات والأزمات التي تعيشها الجزائر، إنها الممثلة الكبيرة فاتن حمامة، التي كانت تجسد نموذجا للحرية وللأمل ولطموح الملايين من النساء في العالم العربي، زمن ما بعد ثورات الاستقلال، وثورات استرجاع الهوية والكرامة. فاتن حمامة كانت نعم المثال للمرأة العربية، بملامحها الجميلة، كامرأة متفتحة على العصر، وبالشخصيات التي جسدتها على الشاشة، لم تمنح فقط فرصة للحلم والمتعة، بينما أيضا أن ترسم نموذجا للمرأة العربية العصرية التي تحاول في هدوء كسر سلاسل الجهل والتخلف وتتعالى فوق الأزمات والذهنيات لتجد لنفسها مكانا وسط مجتمع يبحث له عن مكان بين الأمم. مثلت فاتن المرأة الغلبانة التي تواجه بكرامة مصاعب الحياة، والمتحررة الملتزمة بأخلاق مجتمعها، والحالمة والعاشقة والمثابرة التي ترسم أمام الفتاة العربية الطريق الصعب إلى النجاح، فسارت على طريقها الآلاف، قبل أن تعترض طريقهن موجة الرعب وتحاول إعادتهن قرونا إلى الوراء وقبل أن يعترض تجار الأحلام طريق الأخريات، ويحولهن إلى بضاعة في سوق تجار الصورة فابتعدت الكثيرات عن الطريق الذي سارت عليه هذه السيدة الجميلة، وهو طريق صعب غير مضمون الوصول. رحم الله جاكلين، ورحم الله فاتن حمامة التي دافعت بالكلمة والموقف عن الثورة الجزائرية، وعوضنا عن هؤلاء الكبيرات وريثات يزرعن الحلم، ويحصدن الكرامة والعزيمة؟!