التقيت المناضلة الكبيرة أني ستير، أول مرة، في بيت المجاهدة الكبيرة جميلة بوحيرد، كنت يومها أسعى بفضول صحفي لإقناع بوحيرد بالحديث عن ذكرياتها مع ثورة التحرير، لكن بوحيرد وجهتني إلى سيدة كانت تجلس في صالون بيتها قائلة ”أحنا ما درنا والو مقارنة مع هاذو”. هناك كانت تجلس سيدة هادئة رزينة ومتحفظة، اسمها أني ستينر، طالما سمعت عنها لكني يومها وقفت بحضرتها فهربت مني الكلمات فلم أفعل شيئا غير الاستماع إليها، لم أطرح أي سؤال.. رغم تحفظها وتهربها من التصريحات الإعلامية، لكن آني ستنير وافقت على منحي بعضا من وقتها وفتحت دفاتر عمرها. القيت بعدها أني في مرات عديدة ومناسبات عديدة، وكانت دائما تلك المرأة المتواضعة الخجولة التي تمشي دائما بمحاذاة تاريخ وقضية. وأجمل لقاء كان لي معها إلى اليوم هو ذلك الذي بقى في ذاكرتي منذ سنة. المكان مكتبة ”ألف ورقة” التي أزيحت مؤخرا من خريطة العاصمة. في ذاك المكان كان بقايا التيار الشيوعي والمثقفون والكتاب في الجزائر يلتقون، في ذاك المكان المفعم برائحة الكتب والأوراق تحدثت أني عن الجانب الإنساني لصديقتها جميلة بوحيرد، صداقة عمرها 52 سنة، الصداقة بدأت في سجن ”بو” بفرنسا وتشعبت في دروب الاستقلال. الوقت كان مساء باردا من مساءات شهر سبتمبر، الأمطار تغسل وجه العاصمة والرياح تعبث بآخر أوراق الخريف في الطرقات، في الجانب الخلفي للمكتبة وفي ذاك المكان البارد، كان غذاء أني ستير ”بيتزا” التهمتها على عجل قبل أن تتفرغ لحديثها معي. احتفظت بتفاصيل اللقاء حيا في ذاكرتي، حتى حركات يدها يومها كانت توحي لي بما لم تقله تلك السيدة النبيلة. وبقيت أتذكر أكثر تلك البيتزا فشارع الاستقلال يومها لم يكن يسع لأكثر من هذا. وسط أكوام من الكتب، المكان الذي تفضله أني وسط صور بألوان الأبيض والأسود، تحيل على الماضي الجميل بمحاذاة صور علولة والطاهر جاووت ومايسا باي، اختارت أني أن تبوح ببعض ما تملكه وما تحتفظ به عن صديقة عمرها ”جميلة بوحيرد” الحديث عن جميلة لا يمكن اختصاره، سأتحدث هكذا بعفوية فنحن نتعارف منذ 52 سنة”.. لحظات من الصمت كانت أني تستجمع قواها وذاكرتها قبل أن تنطلق في سرد تفاصيل معرفتها ببطلة معركة الجزائر ”عرفت جميلة في سجن ”بو” بفرنسا، وهو السجن الذي جمعنا في ”دورتوار واحد”، أذكر أن جميلة دخلت ”الدورتوار” وهي تحمل أمنية عابد بين ذراعيها بعد أن انفجرت عليها قنبلة تسببت في قطع رجليها، مازلت أذكر شموخ جميلة ورأسها المرفوع في سماء السجن بتحد كبير، أذكر حتى ألوان ثيابها.. كانت يومها ترتدي سروال من ”الفلور مارو”، أذكرها امرأة ثابتة، في مواقفها كنا متضامنات في السجن، نسير حياتنا بطريقة ديمقراطية ولم تكن لنا ممثلة باتجاه الإدارة، وأذكر أننا كتبنا رسالة للحكومة المؤقتة عندما قرروا أن يعينوا إحداهن لتكون ممثلتنا لدى الإدارة، الرسالة وقعتها كل الأخوات بما في ذلك تلك التي عينتها الإدارة، تضامننا كان وسيلتنا الوحيدة في مواجهة غطرسة السجون الاستعمارية في السجن، عشت مع جميلة في ”دورتوار” واحد، تقاسمنا كل شيء كنا نعتني بأمينة عابد، كنت أنا أقدم دروس الفرنسية وجاكلين ڤروج تقدم دروس الانجليزية ولصفر خيار دروس العربية، كنا نؤمن بالاستقلال، لم يحدث يوما أن تسرب إلينا الشك. وكانت جميلة جد مؤمنة بهذا اليوم، كانت قائدة قوافل النساء إلى المقصلة، كانت بوحيرد في مقدمة المرشحات للإعدام، لكن الله أراد لها أن تعيش عمرا آخر.. تتحدث آني ستنير عن صداقتها مع جميلة بوحيرد بتقدير كبير للجوانب الإنسانة لبوحيرد، فتقول ”لم تتغير كثيرا، جميلة ما زالت كما عرفتها دائما مؤمنة وشامخة، ولم يحدث يوما أن تراجعت عن مبادئها ولا عن الأشياء التي كانت تؤمن بها لم يحدث يوما أن شكت أو ترددت أو حتى ندمت عن ما قامت به وأظنها ستبقى هكذا إلى آخر حياتها”. مازالت أني تتردد على بيت صديقة عمرها للحديث عن الماضي الجميل، عن الثورة والسجون، عن الماضي الرائع للقصبة بعمرانها وعلاقاتها الإنسانية وما آلت إليه اليوم.. تقول ”لم تتغير كثيرا، جميلة ما زالت كما عرفتها دائما مؤمنة وشامخة، ولم يحدث يوما أن تراجعت عن مبادئها ولا عن الأشياء التي كانت تؤمن بها لم يحدث يوما أن شكت أو ترددت أو حتى ندمت عن ما قامت به وأظنها ستبقى هكذا إلى آخر حياتها” بشيء من الخيبة والمرارة، تقول أني بنبرة هادئة ورزينة ”هذا ليس عدلا أن تتحول القصبة اليوم إلى ما هي عليه اليوم، شيء مخيف أن نعيش ”أمنيزيا” النسيان والذاكرة، وأن لا نتحدث عن الناس البسطاء الذين صنعوا مجد الجزائر، شيء مؤسف أن تحتكر الأسماء الكبيرة ساحة الحديث دائما”. تواصل أني سرد ذكرياتها مع جميلة ”جميلة متأثرة كثيرا بأمها ”لالا باية”، هذه القصبوية المؤمنة بجزائريتها، كانت امرأة مثقفة ثقافة دينية لكنها متفتحة، واجهت مصير ابنتها بشجاعة لما حكم عليها بالإعدام، مازلت جميلة تتذكر والدتها دائما وتردد أمثالها عن القصبة القديمة بزخمها وتراثها وثرائه. مازالت جميلة ملتزمة بالقضايا التي ثارت بالأمس من أجلها، كانت من أوائل المجاهدات اللواتي ناضلن ضد قانون الأسرة في ثمانينيات القرن الماضي، حتى أنها اقتيدت لمحافظة الشرطة لهذا السبب، كما كانت دائما حاضرة بقوة في قضايا التحرر في الوطن العربي، حتى أنها ذهبت إلى جنوب لبنان غداة الهجوم الإسرائيلي على لبنان، وحررت رسالة إلى الرئيس العراقي تطالب بإطلاق سراح ”منتظر الزيدي”، جميلة امرأة عظيمة جدا وأشعر بالأسى أن الذين عرفوها عن قرب لا يريدون الحديث عنها، إمرأة أتقنت دائما الحرب والطبخ، عرفت كيف تكون هي في كل الأوقات ولا أحد غيّر ما آمنت به، وامرأة لم تغير يوما مواقفها، وأعتقد أنها ستظل كذلك لآخر مشوارها في الحياة”. سيدة هادئة، رقيقة، تحمل نظرات ثاقبة، تخفي وراء ملامحها السمحة قلبا شفافا يذوب عشقا من أجل الجزائر.. هكذا بدت لي يومها أني، تدمع عيناها عديد المرات عندما يخاطبها الناس في الشارع ”هل تعيشين في الجزائر منذ مدة طويلة”، في هذه اللحظات تكاد آني تعتذر عن وجودها بينهم وهي ابنة الجزائر العميقة، ابنة حجوط وبوفاريك والبليدة وسيدي بلعباس، أين كان والدها مديرا للمستشفى، وهناك توفي وهو في سن الأربعين، حيث عاشت آني تجربة اليتم وهي طفلة لم تتجاوز سن الثالثة عشر، وعادت آني إثرها إلى مدينة الورود البليدة، التي عرفها جدها الذي امتلك بها استوديو تصوير ”كنت أتمنى لو سألت جدي ووالدي لماذا جاءوا إلى الجزائر، تمنيت ذلك فعلا، لم أجرؤ يوما أن أطرح هذا السؤال لأن الأطفال لم تكن لهم شجاعة طرح الأسئلة على الكبار، ربما جاءا بحثا عن الشمس والضوء الذي يعشقه عادة المصورون”. بثانوية بوفاريك زاولت آني دراستها، على جدران تلك الثانوية أسماء عديد الشهداء والمجاهدين أمثال محمد يزيد، علي بومنجل وبن يوسف بن خدة، يومها اختارت آني اللغة العربية كلغة أولى إلى جانب اللاتينية ”لم يكن الأوروبيون وأبناء الأقدام السوداء يختارون العربية كلغة للدراسة، كنا 3 أوروبيات و3 جزائريات، كنا طبعا أبناء الطبقة البرجوازية، أبناء أطباء البليدة، لأن التعليم لم يكن مفتوحا أمام أبناء البسطاء”. ما تزال آني تذكر أستاذها ”حاج زروق” بكثير من الحنين والاعتراف بالجميل. جاءت آني إلى العاصمة وهي مراهقة ابنة 17 سنة، حيث انتسبت إلى جامعة الجزائر، ومنها تخرجت بالليسانس في الحقوق وعملت بعدها في المراكز الاجتماعية، كان هذا في حوالي عام 1949، آني لا تذكر جيدا بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة كانت يومها لا تتجاوز الواحد وعشرين سنة، في عام 1951 تزوجت آني فييوريو، وهو اسمها الحقيقي، من رجل سويسري، وصار اسمها آني ستينر، وولدت أولى بناتها في عام 1953 والثانية في عام 1955، وبينهما كان التاريخ العظيم والكبير لدى آني ثورة أول نوفمبر 1954، آني لا تريد الحديث إلا عن هذا التاريخ لأن فيه عاش الكبار الذين وقعوا أسماءهم بأحرف من ذهب ووقعوا معهم شهادة ميلاد بلد وأكبر ثورة في القرن العشرين، كان قرارا شجاعا وصعبا، لأن من فجروا الثورة كانت تلزمهم الشجاعة وبعض الجنون ليفكروا في تحدي أكبر وأعتى قوة يومها، ماتزال آني اليوم ورغم ما عاشته من خيبات ومن تجارب الزمن وفية لهذا التاريخ ”أتذكر أول نوفمبر، أنتظر منتصف الليل وأشعل شمعة في بيتي، وأتذكر وأفكر في كل الذين رحلوا من أجل هذا التاريخ”. عندما اندلعت الثورة لم تكن آني تعرف أحدا من القادة، ولم يتصل بها أحد، بل هي من طلبت الاتصال بالثورة في ديسمبر 1954، واستغرق الرد ليأتيها سنة كاملة في 1955، آني لا تعتقد أن ما فعلته كان كبيرا ”إذا استطعت أن أفعل ما فعلته فلأن اسمي لم يكن معلنا على قوائم البوليس الفرنسي، ربما لكوني أوروبية لم يشكوا بي”. تواضع هذه المرأة جعلها لا تكبر أفعالها وما قدمته للثورة رغم أنها كانت في مواقع جد حساسة، كانت في مخبر بئرخادم لصناعة المتفجرات لصالح الثورة، كانت مع الإخوة تمسي قابي دانيال ميليار، كانوا ثلاث إخوة أطباء، عرفت آني أيضا جورجيو وحسيبة بن بوعلي إلا أنها لا تحبذ كثيرا الحديث عن الأسماء ”لا أعطي أسماء، الثورة صنعها العمل الجماعي وليس الأفراد، المجهولون الذين لا أحد يتحدث عنهم اليوم قدموا أكثر من نفس الأسماء التي تعود في كل مرة!”. استمرت آني في صناعة القنابل لصالح الثورة إلى أن ألقي عليها القبض في أكتوبر من عام 1956، حيث تم توقيفها في بيتها واقتيدت إلى سجن بارباروس وتمت محاكمتها في نهاية ماي 1957 ”سجن بارباروس كان رهيبا، كان يعني التعذيب تنفيذ التعذيب فقط”. كانت أول امرأة تتم محاكمتها أمام محكمة عسكرية كسجينة سياسية رغم أنه لم يعترف لها بهذه الصفة إلا بعد سلسة من الإضرابات عن الطعام وتمت إدانتها ب 5 سنوات سجنا لأنها تحدت رئيس المحكمة العسكرية وأدلت بتصريحات سياسية من سجن بارباروس والحراش، تم تحويلها إلى سجن البليدة لدواعي متعلقة بالسلوك، وهناك وضعت في زنزانة منفردة بدون أي شيء لمدة 3 أشهر في ديسمبر 1957، وهناك قادت إضرابا عن الطعام في هذا السجن، تم توجيه آني إلى العمل في صناعة الحلفة على عكس الفرنسيات اللواتي يوجهن للعمل في ورشات الخياطة. من البليدة نقلت آني مرة أخرى إلى سجن الحراش من اجل نقلها إلى فرنسا، أين تنقلت بين عدة سجون منها لبتيت روكات غال وسجن بو الرهيب، وهناك عرفت آني عدة مجاهدات أخريات أمثال جاكلين ڤروج، جميلة بوحيرد، الجوهر اقرور وأخريات ”استقبال الأخوات كان رائعا”، تقول آني ”بفضل التضامن والمؤازرة التي كانت بيننا تمكنا من تجاوز محنة السجن وتغلبنا على أصعب اللحظات، كنا نقدم دروسا في السجن لأننا كنا نقول دائما في الاستقلال عندما نحرر البلد سنبني الجزائر”.. ربما ليس سهلا أن نصدق أن خلف المظهر الهادئ لتلك المرأة تعيش مأساة ماتزال آثارها في قلبها ماثلة إلى اليوم، ومن الصعب نسيانها، وكيف يمكن لأم أن تنسى أنها حرمت من بناتها، من فلذات كبدها، لكنها واجهت القرار بشجاعة نادرة عندما تحدت رئيس المحكمة الذي قال لها ”لا أصدق أن هذه المرأة أم”، فأجابته بقصيدة شعرية كتبتها في ليل السجن ”هذه المرأة ليست أم قال السيد الرئيس.. هل جربت أن تقع عيناك على بؤس الأطفال؟ هل جربت أن ترى عيناك بؤس وشقاء الأجساد.. هل يمكنك أن تنام سيدي الرئيس هذه المرأة أم وأكثر من أم سيدي الرئيس”، تلك القصيدة التي تستعيدها آني والدموع تنام خلف عينيها تذكرها بناتها ”كنت محظوظة لأنني على الأقل رأيت بناتي بعد خروجي من السجن، لكنني فكرت في كل أطفال الشهداء الذين لم يروا أبناءهم إلى الأبد”. هكذا هي آني شعلة من الإنسانية لم تنطفئ يوما، حاولت أن تسترجع بناتها وذهبت خلف حلمها إلى سويسرا لكنها لم تتمكن ونامت على أوجاعها بصمت دون أن تنساهن يوما، آني سيدة من الطراز الرفيع، قضت بعد الاستقلال 30 سنة من الخدمة في سكرتارية جهاز الحكومة الجزائرية في مصلحة التشريع، عرفت أناسا وعايشت مراحل لكنها دوما متواضعة، وتصر أن ما قدمته لم يكن شيئا يذكر، ماتزال تحتفظ في تفاصيل وجهها بالإصرار على الكرامة والعزة منذ زمن السجون ”كنا نذهب للمحاكمات ونحن على آخر شياكة حتى لو اضطررنا لنستعير ثياب بعضنا فقط حتى لا نطلب رحمة المستعمر”. هكذا هي أني ماتزال تؤمن بالغد الأفضل رغم أن جيلها كانت له أحلامه وطموحاته في الاستقلال، وإن كان الاستقلال الذي حلم به ذلك الجيل الرفيع من البشر لا يشبه استقلالنا اليوم في شيء، لم يكونوا يردون استبدال الكولون بكولون آخرين، فقد ذهب جون وفرنسوا وبيار وجاء احمد ومحمد”.
استمرت آني في صناعة القنابل لصالح الثورة إلى أن ألقي عليها القبض في أكتوبر من عام 1956، حيث تم توقيفها في بيتها واقتيدت إلى سجن بارباروس وتمت محاكمتها في نهاية ماي 1957