أخشى أن تقع أوروبا وفي مقدمتها الحالة الأصعب ”فرنسا” في ذات الأخطاء التي مارستها الولاياتالمتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وذلك بتعريف خاطئ للأزمة مع ترحيل للمشكلات التي يجب التعايش معها وأولها هذا التعقيد والتركيب الشديد لظاهرة متطورة ك”الإرهاب الأوروبي” أولا بتمييزه وفصله عن سياقه الديني على اعتبار أنه جزء من أزمة أكبر من مجموعات تنتمي لعرقيات وقوميات خاصة- مغاربية أو متصلة بمفهوم الإسلام كدين يستبطن كل المنتسبين إليه لكنه ليس محرّكا بمفرده لارتكاب العنف، بل تحويله إلى ما يشبه الآيديولوجيا الحربية المغلقة عبر انتقائية شديدة تجاوزت فيها تيارات ”القاعدة” وأخواتها وصولا ل”داعش” حدود ”النص” في التجربة التاريخية العنفية متجاوزة تيار الخوارج ومجموعات البغاة الذين كانوا يتوسلون مقولات دينية بغية الوصول للسلطة لكنهم ينتمون إلى نفس الإطار المفاهيمي لتداول النص الديني، أما إرهاب اليوم فهو نص جديد مقطوع الصلة على مستوى الاستدلال عن تاريخ المدارس الدينية لذلك نجد أن كل رموز الإرهاب بلا استثناء لا ينتمون للتيارات الدينية أو المدارس التقليدية الرسمية، فهم نفذوا من خلال هيمنة وثورة الفضاء الديني ما بعد حكومات الاستعمار فحدث تلاقح كبير بين ”الإسلام السياسي” الذي تأثر بتكنيك الأحزاب الماركسية لكنه صنع بصمته الخاصة من خلال النفاذ لقلب المجتمع عبر ”السلفية” وتيارات أهل الحديث ولم تخترها عبثا بل لأنها الفضاءات الدينية الأكثر قبولا للتغيير والتطور والإضافة والاقتباس مع سهولة وسذاجة الفكرة والتعبير عنها مما يساهم في نشرها لدى فئات لم تتلق حظها من التعليم الديني (غالب أفراد الإرهاب الأوروبي محصلتهم الدينية ضئيلة) بل لديها تضخم فيما يخص مسائل القتال ودور الحرب والكفر وتبرير القتل والذبح... إلخ، وهي مسائل كانت تحظى بخصوصية شديدة في مدونة الفقه الإسلامي لاعتبارات تتصل بتاريخية تلك الأحكام وارتباطها بالواقع أكثر منها بالقيم العامة للإسلام والأديان (من المهم مراجعة الفرق بين الدين والتدين كما يطرحه المستشار عبد الجواد ياسين وقد كان قطبيا سابقا والآن أحد رموز التنوير الديني غير المقروءة). الإرهاب الأوروبي سهل الانتشار بسبب غياب المرجعيات الدينية المعتدلة وبالتالي فإن مهمة محاربته تبدأ من الاستثمار في الاعتدال الديني وليس العكس، ذلك أن التغلب على آيديولوجيا عنفية لا يمكن أن يتم دون خطاب بديل، فمن يملك إيقاف شخص مستعد للموت من أجل فكرته؟ لا يمكن إلا بتحطيم صنم تلك الفكرة في رأسه ومشروعيتها وتفنيد أدلتها ومناقشة التفاصيل في الهواء الطلق لا الهروب من الأزمة كما تفعل الجماعات المسيّسة للدين استنادا إلى أزمات كبيرة مع السلطة ومع النخب العلمانية وطموحها السياسي، بينما يفتقد المعتدلون من التيارات الرسمية الدينية التقليدية التأثير والقراءة الجيّدة لواقع الإرهاب اليوم باعتبار أن لديها شكوكا عريضة في الحملة الدولية أو توصيف النخب المدنية للأزمة وتداخل المصادر عندها، فهم من جهة شيوخ الأمس لعدد من الرموز الخارجين عن الخطابات الدينية العامة وهي في مجملها تتفق في الخطوط العريضة لمقولات ”فقه الجهاد” وإن كانت متوقفة عن تنزيل رؤيتها للواقع، وهو الأمر الذي يستغله الإرهابيون فيكملون ما تبقى من ”الصورة المهشمة” للإسلام المعاصر. الإرهاب الأوروبي آيديولوجيا متطرفة مستقلة لا علاقة لها بواقع المجتمعات الإسلامية التي تعاني من الإرهاب لكن لأسباب أخرى يتسيدها عدم الاستقرار وإشكالات السياسة والمواءمة بين ضغط الحياة وإيقاع العصر والخطاب السائد، لكن إرهابيي أوروبا بسبب العزلة نقلوا واقع مجتمعات أخرى إلى حصونهم وأنشأوا خطابا مستقلا بذاته له محدداته الفكرية (العولقي بديلا للظواهري)، فهو يستند إلى فكرة أحادية لا ترى في العالم سوى ذاتها وتحاول أن تفسر الآخرين على رؤيتها الخاصة تلك، ومن هنا يمكن إيجاد نقاط التقاء وتقاطعات في الأدوات وآليات التفكير والتنفيذ بين كل العمليات الإرهابية. التطابق العجيب في ملامح العقل الإرهابي يقودنا إلى ضرورة قراءة الظاهرة في جذرها الفكري والآيديولوجي وليس الاقتصادي والاجتماعي فحسب؛ فكثير من الإرهابيين لا يعاني من أي مشكلات في هذا الاتجاه، بل إن قراءة خطابه أو وصيته قبل العملية توضح مدى حالة الاستقرار النفسي التي تملأ قلبه، مما يحيلنا إلى أهمية قراءة العنف من زاوية الدافع أو ما يسمى ب”الفكرة المسيطرة”، بحيث تنتهي قيمة الوجود لديه، لأنه يأمل في حياة أخرى وفق رؤيته الضيقة التي لم تعد تتسع لها الحياة الحقيقية في الواقع، قراءة فاحصة لاحتفالية بالموت كهذه هي جزء من إعادة الاعتبار لقيمة النفس البشرية ولقيمة الحياة. على أوروبا أن لا تعيد سطحية القراءة الأميركية لظاهرة الإرهاب المعقدة والمليئة بالتفاصيل الجديدة كل يوم (آخرها تقارير عن الحالة الدينية داخل مجتمعات ”داعش” مثيرة للاهتمام). تشخيص هذا النوع المعقد من الإرهاب ”الجديد” المتصل بالهوية يتجاوز أي تصورات جاهزة ومعلبة، فالحلول الأمنية مؤقتة، وصداها السلبي كبير، لا سيما في بلد الحريات كفرنسا، ومن جهة ثانية فإن التأخر في الاستثمار في الاعتدال الديني قد يؤدي إلى تراجع ملف الحرّيات بالكامل، فالفرنسيون كسائر البشر سيخافون من تغول الوحش الإرهابي (47 من الفرنسيين يرون ضرورة إعادة النظر في حريّة التعبير فيما يخص الرموز الدينية). محاولة تجنيس الإرهاب أو ربطه برؤية دينية ما أو تتبع خيوط العلاقات الاجتماعية للإرهابيين كفيل بتحويلهم إلى نماذج مكررة يمكن أن يخلق لديها نفس الدافع، وعليه لا توجد وصفة حل جاهزة وحاسمة، لكن من المهم جدا أن تعيدنا هذه الحوادث إلى المربع الأول، وهو التقصير في إيجاد ثقافة بديلة عاقلة وواعية قوامها الخطاب الديني المعتدل والاهتمام بنشر هذا الخطاب باللغة التي يفهمها الشباب وحوارهم بشكل جاد وعلني.. حيث لا حل إلا بالاستثمار الطويل في الاعتدال الديني.