لم تكن أوروبا في حاجة إلى اللاجئين السوريين لتتأكد من أنها في أزمة، لعلها واحدة من أخطر الأزمات التي واجهتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لا مبالغة في القول أن الأزمة الراهنة في أوروبا تستعير بعض سمات أزمات المصير والوجود. لا يعني هذا أن أوروبا عادت تهدد بحرب كونية ثالثة تضاف إلى سجلها الأسود، كما أنه لا يعني أن الاتحاد الأوروبي على وشك الانهيار أو الانفراط، إنما يعني أن الإنسان الأوروبي لم يعد حامل تفاؤل كما كان عند بدء نهوضه اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. يعني أيضاً أن قادة الاتحاد في بروكسيل، وقادة الدول المتمسكة بالوحدة وإنجازاتها، مطالبون الآن وأكثر من أي وقت مضى بتقديم إجابات صريحة ومحددة على أسئلة عدة تتعلق بمعظمها بمستقبل القارة. هناك بطبيعة الحال أسباب تتعلق بظروف خارجة عن إرادة النخب الحاكمة في أوروبا، أهمها هذا الترقب العظيم الذي يرصد كل خطوة تخطوها الصين في رحلة التوسع والنفوذ خارج حدودها، ويرصد في الوقت نفسه كل خطوة تخطوها الولاياتالمتحدة في رحلة عودتها إلى حدودها. العالم كله باستثناء الدول العربية، حكاماً وشعوباً، يرقب ويترقب نتيجة هذا السباق المتوازي والمثير بين قوة راحلة وقوة مقبلة. لا يخفى أن المجموعة الأوروبية قبل أي مجموعة دولية أخرى تقف مشدودة ومتوترة، فالوقت لم يسعفها لتحقيق وحدتها كاملة وقوية قبل انطلاق السباق بين الصين وأميركا، والتقديرات الاستراتيجية لقياداتها وكذلك نقص الثقة المتبادلة بينها لم يرقَيا يوماً إلى مستوى الاستعداد ليوم تقرر فيه الولاياتالمتحدة خفض درجة أولوية أوروبا في الاستراتيجية الأميركية. هناك بطبيعة الحال الأسباب الداخلية، أي الأسباب الأوروبية. الأسباب الخارجية وحدها لا تبرر انحسار أسطورة التفاؤل الأوروبي، فقد تعاقبت على مسيرة الوحدة الأوروبية مشكلات عدة، تتقدمها مشكلتان جوهريتان، الأولى تعلقت بانكسار الشيوعية في دول وسط أوروبا وشرقها، وهو التطور الذي فرض على ضمير الأوروبيين الغربيين ضرورة ضم هذه المجتمعات في الجماعة الأوروبية الموحدة واستيعابها. كانت خطوة ضرورية ولكن مكلفة من نواحٍ كثيرة وخلّفت آثاراً ما زالت فاعلة بقوة. هنا لا يمكن إنكار حقيقة أدركها الأوروبيون على اختلاف مشاربهم وعقائدهم السياسية، وهي أنه لولا وجود ألمانيا على قمة الجماعة لما جرت تجربة الضم والاستيعاب. المشكلة الثانية التي أثرت في مسيرة الوحدة في السنوات الأخيرة تجسدت في الأزمة التي ضربت النظام الاقتصادي العالمي، بخاصة قواعده الرأسمالية في عامي 2007 و2008، وما زالت تداعياتها مستمرة، كما رأينا في قبرص في شكل رمزي، ثم في اليونان في شكل درامي، وقبلهما بدرجات متفاوتة في دول أخرى في غرب أوروبا وجنوبها. مرة أخرى، نقول: أنه من دون وجود ألمانيا باقتصاد قوي لكانت الخسائر الاقتصادية والاجتماعية في شتى أنحاء القارة أكبر وأفدح. اليونان كانت تجربة مثيرة ليس فقط لأنها أعادت طرح بدائل أقل انغماساً في الرأسمالية، ولكن أيضاً لأنها فضحت الدور غير المناسب الذي يلعبه النظام المصرفي في أوروبا، ولأنها في الوقت نفسه أعادت إلى أذهان الأوروبيين العاديين ذكريات أليمة تتعلق بماضي ألمانيا خلال المرحلة النازية. كان بدهياً أن تبقى ألمانيا على امتداد مرحلة الأزمة اليونانية في قفص الاتهام، ومهما قيل في تبرير موقف السلطة الألمانية وانقسامات الجانب اليوناني وتردد سياسات دول أوروبية في شأن إخراج اليونان من أزمتها، بقي واضحاً حتى الآن أن صمود القيادة الألمانية أنقذ الوحدة الأوروبية مرة أخرى، وبمعنى أدق كان يمكن منطقة اليورو أن تنحل وينكسر الحلم الأوروبي لو لم تكن ألمانيا موجودة وقوية. الحديث عن موقف ألمانيا من أزمة اليونان يذكّر بموقفها من أزمة اللاجئين. هنا أيضاً وقفت ألمانيا بشراسة وإصرار ضد حركة تمرد قادة دول وسط أوروبا وشرقها، إذ رفضت هذه الدول رغبة ألمانيا في توزيع اللاجئين على جميع دول الاتحاد الأوروبي، معرضة نفسها لدى الرأي العام العالمي للانتقاد، بينما حصلت السيدة مركل مستشارة ألمانيا على شعبية فائقة دفعت آخرين لترشيحها لجائزة نوبل لدورها في حضّ الألمان على استقبال اللاجئين وتهديدها باستخدام نفوذ ألمانيا في بروكسيل لحرمان الدول المتمردة من بعض منح ومساعدات الرئاسة الأوروبية. ما لم تقدره السيدة مركل التقدير السليم هو مدى قوة الرأي العام الأوروبي وحماسته تجاه مسألة اللاجئين. تعرف مركل وقادة آخرون أن أوروبا الغربية شاخت وأنها في حاجة ماسة إلى هؤلاء اللاجئين باعتبار أن غالبيتهم من الشباب والأطفال، ولكنها تعرف أيضاً أن قوى اليمين في أوروبا عزمت منذ سنوات على الاحتشاد ضد الهجرة في جميع أشكالها، وهي تعرف بالتحديد أن حلفاءها في الحكم غير راضين عن موقفها. يبدو أن ألمانيا أكدت في هذه الأزمة كما في سابقاتها أن وجودها في مكان القيادة أنقذ أوروبا من حافز جديد للانفراط، أو على الأقل لاستعادة السيادة المطلقة على حدود الدول وتقييد حرية التنقل التي هي الفكرة الأساس في مسيرة الوحدة الأوروبية. لم تكن مسيرة الوحدة الأوروبية في أي وقت ميسرة وبسيطة. كانت قضية انضمام تركيا محل جدل لا يتوقف وخلافات قوية داخل الاتحاد. كانت ألمانيا منذ البداية وهي الدولة الأوروبية الأكثر ازدحاماً بالمهاجرين الأتراك ولا تزال ضد انضمام تركيا، لكنها بحكم قوتها الاقتصادية قادت التيار الداعي إلى تقديم امتيازات جمركية وتسهيلات سفر، باعتبار أن تركيا تظل الدولة التي تحتل موقعاً استراتيجياً بالغ الأهمية بالنسبة إلى أوروبا الموحدة أو المنفرطة على حد سواء. أدركت ألمانيا أيضاً أن الأوروبيين بوجه عام والشرقيين منهم بوجه خاص، لم ينسوا أن المسلمين الذين هددوا باحتلال فيينا عاصمة إمبراطورية الهابسبرغ، كان هدفهم ضم أوروبا إلى الإمبراطورية العثمانية الإسلامية، وأنه لولا جيوش شرق أوروبا لما انسحبت الجيوش الإسلامية. فجأة تعالت أصداء التصورات بأن اللاجئين السوريين والأفغان والأكراد هم طلائع حملة إسلامية جديدة تغزو أوروبا. في المقابل اضطرت ألمانيا إلى تغيير لهجتها في التعامل مع الأزمة، خوفاً من اندلاع موجات عنف عنصرية ودينية تتوقف بسببها مسيرة الوحدة الأوروبية. كثير من المعلقين لا يلتفتون إلى حساسية المسألة الروسية لدى النخبة الحاكمة في ألمانيا. هناك حساسية لا شك فيها، لا يوجد مثلها في دوائر الحكم البريطانية والفرنسية وغيرها من الدوائر السياسية في غرب أوروبا. معروف أن العلاقة بين روسياوألمانيا أشبه بطرف حبل سري طرفه الآخر أمن أوروبا وسلامتها. أستطيع من موقعي هنا في الشرق الأوسط أن أرى بوضوح كافٍ مدى اهتمام صانع السياسة الألماني بقرار الرئيس بوتين التدخل عسكرياً في الأزمة السورية. أرى من ناحية تطلعه غير المعلن لأن يؤدي هذا التدخل إلى تهدئة الأوضاع في سورية. هذه التهدئة تحمل في طياتها وقف الهجرة إلى أوروبا. أرى من ناحية أخرى ارتياحاً، أيضا غير معلن، إلى أن هناك في العالم، وأقصد القيادة الروسية، من قرر التمرد على سياسات المراوغة التي تمسكت بها واشنطن في تعاملها مع هذه الأزمة. الأزمة التي بدأت في الشرق الأوسط أصبحت تهدد الآن استقرار أوروبا ومسيرة وحدتها، وتكشف عن تفاقم حالة اللافعل في الحلف الأطلسي، بما يعني في الحقيقة والجوهر انكشاف أمن أوروبا في مواجهة روسيا.