شهدت الآونة الأخيرة، ظهور تحديات عدة واجهت حكومات ذات توجّه يساري وصلت إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع ومن خلال عملية سياسية ديموقراطية وتعدّدية في عدد من بلدان أميركا اللاتينية على مدار العقد ونيف الأخير، وبما شمل تراجع الحزب الاشتراكي الحاكم في فنزويلا في الانتخابات النيابية الأخيرة، وتظاهرات ضخمة في البرازيل تطالب باستقالة رئيسة الجمهورية القادمة من خلفية يسارية، ثم حالة من الترقب والاستقطاب تتصاعد في ظل سياسات حكومة ائتلاف العديد من فصائل اليسار وأطيافه في تشيلي. ونتناول هنا على سبيل المثل، الحالة التشيلية، حيث كان كثر من الكتاب والمحلّلين قد تناولوا تشيلي في عهد الرئيس اليساري المنتخب ديموقراطياً الراحل سلفادور الليندي، وكذلك تناولوها في عهد حكم الجنرال بينوشيه الذي أطاح الليندي وقتله في انقلاب عسكري في 11 أيلول (سبتمبر) 1973، بدعم مباشر من الاستخبارات المركزية الأميركية وبتنسيق وثيق مع عدد من الشركات الأميركية، وأقام نظاماً ديكتاتورياً عسكرياً استمر أقل من عقدين. لكنّ قليلين تناولوا تشيلي في حقبة ما بعد بينوشيه، ونسعى هنا الى تناول موضوع أكثر تحديداً من ذلك، وهو موقع اليسار، بقواه المختلفة، في تشيلي على مدار الأعوام الخمسة والعشرين الماضية، وما شهده هذا الدور من تحولات، وما دار بين قواه المختلفة وبينها وبين أطياف الشارع السياسي التشيلي الأخرى من مساجلات وتفاعلات. فمن اللافت أن قوى اليسار ويسار الوسط، أو بمعنى أدق الائتلاف بين أطراف تلك القوى، بخاصة بين الحزب الديموقراطي المسيحي من جهة، والذي بخلاف حالات بلدان أوروبا التي يعتبر فيها عادة حزباً يمينياً، فإنه في الحالة التشيلية يعتبر حزباً للوسط الذي يميل إلى اليسار، والحزب الاشتراكي، حزب سلفادور الليندي، من جهة ثانية، وأحزاب يسارية صغيرة، انشقت على مدار السنين عن الحزب الاشتراكي، من جهة ثالثة، وأخيراً، وليس آخراً، الحزب الشيوعي التشيلي، من جهة رابعة، قد سيطرت تقريباً على الحكم، بموجب انتخابات ديموقراطية ودورية ومنتظمة، في 80 في المئة من الوقت المنصرم منذ تخلّي بينوشيه عن السلطة في عام 1990. فحكومة واحدة فقط على مدار تلك السنوات جاءت من اليمين، واللافت أنه حتى هذه الحكومة استمرت في تطبيق السياسات الاقتصادية والاجتماعية نفسها التي انتهجتها الحكومات اليسارية التي سبقتها. ويلاحظ أن الحكومات اليسارية المتعاقبة أدخلت العديد من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي نزلت بمن يعيشون تحت خط الفقر إلى 7 في المئة، بعد أن كانت نسبتهم ما بين 40 إلى 45 في المئة. وتضاعف متوسط دخل الفرد من 500 دولار إلى أكثر من 15 ألف دولار، لتصبح تشيلي الدولة الثانية في أميركا اللاتينية، بعد الأوروغواي، في هذا الصدد. وتحسّنت الأوضاع المعيشية، بخاصة الرعاية الصحية، فأصبح متوسط عمر المواطن التشيلي يفوق الثمانين عاماً، وحدث تقدم مضطرد في الخدمات التعليمية. لكنّ كثراً من التشيليين الذين هم دون الأربعين من العمر، لا يتذكرون جيداً واقع بلدهم في عهد بينوشيه، لذلك يرون أن كل ما تحقق لا يرقى إلى سقف توقعاتهم. فبعض هؤلاء، بخاصة من الشباب المنضوي تحت ألوية فصائل اليسار المختلفة، يصرّ على توجيه اللوم الى الآباء والأجداد بسبب ما يعتبرونه تفريطاً في حقوق الوطن والمواطن، عندما قبلوا التفاوض مع بينوشيه وعدد من قادة الجيش حول ”شروط” الأخيرين للسماح بعودة الديموقراطية إلى البلاد، بما في ذلك شرط إخراج الجيش من تحت أي سيطرة مدنية والحصول على ضمانات في شأن عدم تعرّض القادة والضباط والجنود للمساءلة أو التحقيق أو المحاكمة نتيجة ما ارتكبوه من جرائم بحق الشعب. ويحتاج أي مراقب منصف أن يتوقف قليلاً أمام هذه الاتهامات ليس من منطق إن كانت صحيحة من عدمه، لكن من منطلق أهم وهو أنه لا يمكن الحكم على مشهد تاريخي دار سابقاً، وتحديداً منذ ربع قرن، بمعايير اليوم أو مرجعياته أو منظومته القيمية، كما أن هؤلاء لا يرون نصف الكوب الممتلئ ويصرون على النظر فقط إلى نصفه الفارغ، وبالتالي لا يقدرون أنه لولا ”مفاوضات” الكبار آنذاك، لربما تأخر قدوم الديموقراطية كثيراً إلى تشيلي ومعها تأخرت عودة اليسار إلى الحكم عبر الطريق الديموقراطي. لكن هناك انتقادات أخرى تم توجيهها من صفوف شباب اليسار إلى قيادات اليسار في تشيلي، وهي تنبع من اعتبارات أخرى لا تتصل بالتاريخ في شكل مباشر بل بالمنهج المتبع، فهؤلاء يدعون إلى الاهتمام بالكيف وليس الكم، ويدفعون بأنه حان الوقت للتركيز على التحولات النوعية وليس الاستمرار في تبني نهج يعتمد على المؤشرات الكمية ويعتبرها المعيار الوحيد والمرجعية الأهم. لكن مرة أخرى يفشل هؤلاء في النظر إلى أن هذه التحولات الكمية هي التي نقلت الأوضاع المعيشية للشعب التشيلي من حال إلى حال أخرى مغايرة تماماً وأفضل كثيراً. وتظلّ النقطة الأكثر جذباً للانتباه هي أنه بينما حكم ائتلاف اليسار سابقاً من دون إشراك الحزب الشيوعي في الحكومة، فإنه هذه المرة يشرك الشيوعيين معه في السلطة، وهو الأمر الذي جعل الائتلاف الحاكم عريضاً من جهة، لكنه جعل البعض في داخله يدفعون بمطالب تغيير أكثر جذرية، في وقت بدا لكثر أن الشعب التشيلي في غالبيته خلص بعد تجربتي حكم الليندي وبينوشيه، إلى أن التشدد في أي اتجاه كان، يميناً أو يساراً، لا يفيد في الكثير أو القليل، بل غالباً ما يضر، وأن التدرج في التغيير والطابع الإصلاحي، وليس الثوري لهذا التغيير، هو الذي يؤدي إلى تحقيق نتائج إيجابية وقابلة للاستدامة. وتكمن المفارقة في أن من يدفع باتجاه التشدّد في إنجاز تحولات جذرية وسريعة لمصلحة مبادئ اليسار وأهدافه في تشيلي اليوم، ليس الحزب الشيوعي، الشريك في السلطة، بل إن الحزب يتّسم بقدر مما يمكن تسميته بالوعي السياسي بمعطيات الواقع التشيلي من جهة، وبالانضباط التكتيكي من جهة أخرى، بما يبعده من إطلاق أي دعوات مغامرة أو تبني أي سلوك يتّسم بالطفولية، لكن هذا الأمر ليس جديداً على الحزب الشيوعي التشيلي، فقد التزم النهج ذاته منذ عقود طويلة. وحتى في زمن الليندي، فإن الدعوات المغامرة كانت تنطلق من عناصر داخل حزبه، الحزب الاشتراكي، وليس من الحزب الشيوعي. وفي المقابل، فإن الدعوات إلى تغييرات راديكالية ذات طابع مغامر وربما متسرّع، والتي تنطلق من داخل الائتلاف الحاكم في تشيلي اليوم، تصدر من داخل أحزاب يسارية انشقت في مراحل سابقة عن الحزب الاشتراكي، وأنها من منطلق السعي الى إثبات أنها الأكثر صدقية في تمثيل آمال اليسار، فإنها تسعى الى المزايدة على شركائها في السلطة، سواء الحزب الاشتراكي أو الحزب الشيوعي على حد سواء. ويتخوف كثر، بمن فيهم مؤيدون تقليديون لليسار التشيلي اليوم، نتيجة هذه الاتجاهات الدافعة الى التشدّد، وهو بالطبع تشدّد فكري وليس دعوة لممارسة العنف، من داخل بعض صفوف اليسار. ويحذر هؤلاء من أن استماع الائتلاف اليساري الحاكم الى هذه الدعوات أو الانقياد خلفها أو القبول بمنطقها، سيدخل البلاد في حالة خطيرة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، التي يتخوف كثر من التشيليين من مجرد التفكير فيها وفي ما يمكن أن تعيد تشيلي إليه من ذكريات فترات سابقة يسعى كثر من التشيليين إلى تناسيها. وبالتأكيد هم يحرصون أشد الحرص على عدم السماح بعودة توافر الأجواء التي يمكن أن تؤدي أو حتى تسمح بإعادة إنتاجها بكل ما شهدته من مآسٍ استمرت سنوات طويلة وعانى منها الشعب التشيلي.