صدرت مؤخرا رواية ”الحركي” للروائي محمد بن جبار، وهي رواية تعاملت مع المحظور ومع أكثر الطابوهات في الجزائر الحديثة، باعتبار أن الحرْكى هم عملاء الجيش الفرنسي أو ما يسمى بخونة الثورة الجزائرية، لم يُسمح لهم بالحديث أو رفع أصواتهم منذ أكثر من خمسين سنة. ترصد الرواية قصة بن شارف الحرْكي الذي تعاون مع الاستعمار الفرنسي بدون قصد كانتقام من عمه الذي صادر قطعتهم الأرضية، وانضم إلى ثكنة عسكرية فرنسية هربا من القصاص، وجد نفسه عميلا وخائنا لوطنه بعد سنوات الخدمة مع جيش الاحتلال، خلال هذه الفترة يؤرخ لتفاصيل دقيقة للحرْكى والمتعاونين، كما تسرد الرواية أيضا تفاصيل التحوّل النفسي للبطل بن شارف بعد مقتل أحد ”المخازنية” واستفاقة الضمير ووعيه باقتراف جريمة ضد وطنه. في صراعه ضد مرض الزهايمر، وهو على مشارف الشيخوخة وتحت إشراف المساعدة الإجتماعية ”فاني بوركي”، يكتب مذكراته لعلّه يؤخر من أعراض المرض وقبل أن يستعصي أكثر فأكثر، فهو من جهة يصارع الذاكرة ومن جهة أخرى يبحث عن طريقة للتكفير عن أخطائه عن طريق البوح، فالرواية يحتدم فيها الصراع بين الشرف والخيانة خلال سنتين التي عملها مع القبطان مونتروي، فيؤرخ التفاصيل الدقيقة للثورة الجزائرية داخل الثكنة وخارجها، خاصة قرية عين الحلوف ويلل والقلعة. تتخذ الرواية من ثكنة قرية ”عين الحلوف” مسرحا لها، تبرز شخصية النقيب مونترويْ قائد الثكنة الشخصية المحورية والرئيسية في التشكيل الروائي فهو الرجل الذي يتعلم منه بن شارف وأكثر قربا منه، باعتباره سائقه الشخصي، فمن خلال 17 شهرا يرصد بن شارف العالم القريب من الثورة والعقلية الفرنسية مرورا بالتعرف على عقلية الحركى وتطورها الزمني والنفسي والإشكالات اليومية المطروحة، كبروز القوى المعارضة لسياسة الحكومة الفرنسية داخل وخارج الثكنة، وبروز التطرف لدى بعض المستخدمين وخصوصا أحد متعاوني النقيب مونترويْ المتمثل في الملازم الأول بيير أليغري الذي يدفع بثكنة لاصاص نحو التطرف تجاه قرى المنطقة. وبين دفتي الرواية إشارات واضحة لبعض المتعاونين خارج الثكنة وخاصة أولئك الذين يرتبطون مع إدارة لاصاص بمصالح معلومة تلقي الضوء على نقاط مبهمة في تاريخ الثورة الجزائرية، مرورا برصد زمني وتاريخي لكل تطورات الثورة التحريرية والنظرة الكولونيالية للواقع الجديد التي تبلورت مع انتصارات جيش التحريرميدانيا، بن شارف ومونتروي وغيره من مستخدمي الجيش الفرنسي في كل مرحلة من مرحلة التطور يثيرون أسئلة حول المصير، الجميع متخوف من مستقبل مجهول، وفي نفس الوقت تثار إشكالية الشرف والخيانة كخلفية فلسفية لمتن الرواية، كل الشخصيات دون إستثناء تتحدث من زاوية الشرف والخيانة، هذه الثنائية هي جسد الرواية وروحها. يتمكن الزهايمر من ”بن شارف” ويدخله في عالم الظلمات ويكون قد أنجز مذكراته لأسباب علاجية، ولكن استطاع أن يقول ما لم يتمكن منه أقرانه. وتعتبر رواية ”الحركي” العمل الثاني في الرواية للكاتب محمد بن جبار بعد روايته الأولى ”أربعمائة متر فوق مستوى الوعي” التي صدرت السنة الماضية، والتي تتناول حياة الإنسان بنوع العبث، وتتحدث عن مواضيع عديدة كالجنس والحب والتاريخ وغيرها. تتلخص الرواية في قصة عواد ذلك الكهل الذي قضى أكثر من أربع وعشرين سنة يعمل كموظف إداري في مصلحة تابعة للقطاع الفلاحي بولاية غيليزان، وتنطلق الحكاية من مدينة المطمر التي يعمل بها البطل كتقني في القسم الفلاحي، وهو الموظف الذي تعب جسده ذهابا وإيابا في مسافة أربعمائة متر بين أقرب نقطة لمحطة الحافلات ومقر عمله بالمطمر، يحكي الراوي على لسان البطل، عن يومياته التي قضاها منذ تعيينه في المنصب حتى بلوغه الخمسين من العمر. يستعمل بن جبار في روايته شخصيات حدد لها وجهتها في النص بعناية وقصد شديدين، أول هذه الشخصيات وردية، ومعها تعلم فنون الحب والجنس، والتي تضطر لطرده من شقتها في إحدى الليالي لما اعترف لها بحبه لزوجته. ويحكي بن جبار فصول روايته، يحكي بلسان عواد وبقية الشخوص، عن قضايا كانت في طي الكتمان وأخرى من الطابوهات، كما أن عواد في روايته يدخل القارئ معه في حياته البسيطة، ليركبها شيئا فشيئا، فيحكي عن الثورة وما بعد الثورة، عن الحركى وأبناء الحركى، وبهذا يتناول الكتاب تاريخ الجزائر منذ الثورة حتى سنوات الإرهاب ونتائج كل الأزمات التي لحقت بالبلاد وانعكست على حياة الأفراد. تحكي الرواية كذلك قصة عمي الجيلالي الذي ينكب على كتابة سيرته الذاتية، وهي مذكراته التي تحكي حياته والأحداث التي عاشها وعايشها منذ الثورة، بحكم معرفته لتاريخ المنطقة.