من الصعب أن نصنّف ربيعة جلطي في جيل أدبي معيّن، بل من الصعب أن نعطي قراءة تفكيكية لواقع الحركة الشعرية في الجزائر خاصة والأدبية عامة، فهل تستطيعين أنت ذلك ؟ هذا سؤال عام وكبير ولكن ما يمكن قوله في هذا الباب هو أن الحركة الشعرية عندنا لم تفرز أسماء جديدة ومتميزة؛ إذ أن أسماء السبعينيات والثمانينيات هي التي تشكل المشهد الشعري الجزائري حتى الآن. وأعتقد أن غياب الفضاءات الثقافية وفوضى النشر وعدم حرفيتها وكذا انسحاب الجامعة من الحركة الثقافية، كل هذا ساهم في تشوش المشهد الشعري في الجزائر، والأمر نفسه ينطبق على العملية الأدبية عامة. أؤمن أن اللغة مسألة فردية، فهي مهما كانت مشتركة في تجمعنها إلا أنها فردية في الإبداع. وأعتقد أن المبدعة في العالم العربي ونظرا لما في اللغة من تجنسن تسعى لاستعادة امتلاكها للغة ولكن بطريقتها الخاصة. مؤكد أنه من الصعب تشكل لغة خاصة بالمبدعة ولكن هناك عمل الآن يتم من خلال أصوات نسوية في الكتابة عربية في الشعر والرواية والمسرح والسينما. أنا متأكدة أن اللغة العربية تنقذها المبدعة العربية وأنها من منطلق ما تعانيه في مجتمع عربي مختل التوازن السيكولوجي والسياسي والاجتماعي قادرة على زلزلة اللغة. هل تعتقدين أن غياب حركة نقدية جيدة في الجزائر هي سبب ركود الحركة الشعرية؟ صحيح، هناك غياب في الحركة النقدية التي تخلق جدلا حول عمل شعري أو روائي، وفي اعتقادي يعود هذا الأمر إلى المسافة التي تأسست أواختلقت ما بين الجامعة والحياة الثقافية العامة وبين الجامعيين والكتابة الصحفية التي تكون دائما هي المحرك للحوار والنقاش الثقافيين. إن كتاب طه حسين الإشكالي "في الأدب الجاهلي" الذي ظل مثار نقاشات فكرية وأدبية ولا يزال حتى الآن كان في أساسه عبارة عن مقالات نشرها طه حسين، في جريدة يومية. إن دخول أوعودة الجامعيين إلى الحياة الثقافية وربط المذكرات والبحوث الجامعية مباشرة بما يحضر يوميا في الثقافة والإبداع أمر يعيد للنقد حيويته وللحياة الإبداعية ألقها. هل هناك قوة للثقافة في زمن طغت فيه ثقافة القوة.. وما مدى فعالية القصيدة في هذا الزمن ؟ تظل الثقافة الجيش الذي يخيف، يخيف الحكام والسلاطين لأنها تخاطب الوجود وتتحدث عنه. قوة الثقافة في أنها تدافع عن القيم التي غيبها الظلم والظلام من القلوب والعقول. الثقافة قوة لأنها تعتمد على أكبر سلاح تضعه الطبيعة بين يدي المبدع وهي اللغة: اللغة بكل تجلياتها التعبيرية المختلفة. أعتقد أن المقولة التي كان الستالينيون يقولونها عن الثقافة وهي: "حين أسمع كلمة ثقافة أتحسس مسدسي" مقولة لا تزال قائمة لأن الثقافة تغير الذهنيات بطريقة قد تتجاوز أفهام السلطات وبطريقة لا تتوقعها الأنظمة. لن تفقد القصيدة فعاليتها أبدا لا في هذا الزمن ولا في الأزمان القادمة، فالشعر خلق مع الإنسان وسيظل معه، يتبدل يتطور يتخذ له أشكالا تعبيرية جديدة لكنه لا يختفي. إن الشعر كالموسيقى هو حالة روحية و معرفية لا يمكن لأية حالة معرفية أو روحية أخرى أن تقوم مقامها. كل قصيدة مترجمة بنجاح هي قصيدة أخرى؟ أنا لا أستسيغ الشعر المترجم الذي فيه أمانة كبيرة في الحرفية. ترجمة الشعر في رأيي محاولة خطف الحالة وتهريبها إلى لغة أخرى. قرأت ترجمات جبرا إبراهيم جبرا لشكسبير فوجدت فيه إبداعا عربيا عاليا. قرأت ترجمة بودلير لإدغار ألان بو، فوجدت فيه إبداعا فرنسيا. ترجمة الشعر حالة انخطاف خاصة. هل لا زلت تعتبرين أن ملتقى الشعر النسوي هرّب من بسكرة إلى قسنطينة على يد منيرة سعدة خلخال؟ لا أعتقد أن في الأمر تهريبا ما.. عندما قدمت استقالتي من مسؤوليتي في وزارة الثقافة قبل سنتين، لم أقدم نصف استقالة بل كاملة حتى من ملتقى الشعر النسائي الذي نظمت طبعته الأولى في مدينة بسكرة العريقة وأيضا من ملتقى الثلاث ريشات الذي نظمت طبعته الأولى في مدينة تيبازا، ساحرة الجمال وكانت استراتيجية الملتقيين أن ينتقلا في كل دورة إلى مدينة حتى يحركا بدورهما المناخ الثقافي هناك. تقول أحلام مستغانمي إنها "عرابة" الشعر النسوي في الجزائر، فما هو تعليقك وأنت من نفس جيلها تقريبا؟ أحلام مبدعة بامتياز وصديقة عزيزة وتحب وطنها بجنون، ومن حبر قلمها الساحر جعلت حشود المعجبين بالجزائر في تكاثر. في السبعينيات كتبت أشعارا جميلة ومقالات ذكية وأخاذة. ليس يؤذيني ولا أعتقد أنه يؤذي أو يزعج واحدا أو واحدة إن هي قالت إنها "عرابة" الشعر النسوي في الجزائر. هل تعتقدين أنه على الكتاب والشعراء أن ينشروا في المشرق حتى يعرفوا؟ العالم العربي مشتت الذهن عائم في فوضاه السياسية والاقتصادية.. عالم مازال بعض سائديه "يستغبون" شعوبهم ويفسرون الدين بالسياسة والسياسة بالدين، ويضيقون سماء الحرية على المبدعين في أوطانهم ويظنون أن الصمت السائد هو علامة على الرضا. في المناخ المضبب هذا، كيف يمكن التفكير في إيجاد طرق سالكة لتمرير الكتب بعد محنة الطبع من المغرب العربي إلى المشرق ومن المشرق إلى المغرب العربي؟ إذا انطلقنا من فكرة "إن الأعمال بالنيات" هل توجد نية طيبة لدى السائدين لخلق استراتيجية واضحة لتبادل المعرفة والفن بين البلدان العربية؟ لا يمكن نكران الواقع الذي يبين لنا يوميا أن هناك مراكز في العالم هي التي تصنع الأسماء وتصدرها وتطورها، فبيروت لا تزال المركز الذي يرسل أسماءنا الأدبية إلى القارئ في العالم العربي وإلى القارئ في العالم بشكل عام، كما أن باريس لا تزال أيضا مركزا لتصدير و صناعة ورعاية الأدب الذي يكتب باللغة الفرنسية. إن المرور بباريس أوبيروت أوالقاهرة للوصول إلى القارئ والعالم.. سببه أننا في المغرب العربي لم نستطع أن نصنع مركزا قويا لأدبائنا و لأدباء غيرنا. كما أن الإعلام المرئي القوي الذي بدأ يصنع و يصدر أسماء أدباء عرب، المراكز الإعلامية من قنوات تليفزيونية وغيرها تتمركز أيضا في منطقة الخليج، إذ لا يمكننا اليوم الوصول إعلاميا إلى العالم العربي أو الغربي وبشكل قوي إلا من خلال هذه القنوات الكبرى في الخليج أوأوروبا، لذا فإني أشعر أننا أمام حالة من ولادة مراكز جديدة تهيمن على صناعة الثقافة و صناعة أهل الثقافة ورموزها.. وأعني بها تلك المراكز الإعلامية المرئية التي بدأت هي الأخرى صناعة وتصدير وتسويق أسماء في الأدب كما في الفن بشكل عام. هل ستتحول ربيعة جلطي لكتابة الرواية يوما ما؟ منذ البدء كانت تتجاذبني أيضا ملكة القص إلى جانب الانجذاب نحو مطاردة اللحظات الشعرية المكثفة الهاربة مثل الفراشات، الأمر الذي جعلني أكتب كثيرا من القصص بنفس أسطوري إيحائي تارة وبسخرية لاذعة تارة أخرى ولدي مخطوطات لروايات كتبتها في مراحل من مسيرتي لم أقرر طبعها إلى الآن، لأنني لست مأخوذة بموضة الكتابة الروائية النسوية التي تطغى الآن على الساحة الأدبية العربية.