* تحرير ساحل الشام كان ثغر صور من أمنع المعاقل الصليبية على ساحل الشام. وقد حاول صلاح الدين الأيوبي تحريره مرتين ولكنه لم ينجح. كانت سيدة صور مرجريت أوف لوسيجنان أرملة جون أوف مونتفورت قد تنازلت لإبن أختها أمالريك عن صور منذ فترة قصيرة قبل فتح الأشرف لعكا. في التاسع عشر من ماي أرسل الأشرف، وهو ما زال في عكا، فريقا من المقاتلين تحت قيادة الأمير سنجر الشجاعي للتعرف على حال الصليبيين في صور. عندما رأى آدم أوف كافران نائب أمالريك في صور قوات الشجاعي ارتعب وفر إلى قبرص، فإستولى الشجاعي على صور بدون قتال. أرسل الأشرف خليل الأمير الشجاعي إلى صيدا فقرر فرسان المعبد اللوذ بقلعتهم، التي كانت مشيدة على جزيرة صغيرة قرب الشاطئ، إذ أن ثروتهم كانت قد نقلها زعيمهم الجديد تيبالد غودين إلى صيدا وقت حصار حصنهم في عكا. ثم فرّ تيبالد غودين بالثروة إلى قبرص بعد أن وعد فرسان حامية صور بإرسال إمدادات إليهم من قبرص، وهو مالم يفعله، فاضطر الفرسان إلى مناوشة قوات الشجاعي لبعض الوقت حتى تمكنوا ذات ليلة من الفرار إلى طرطوس بعدما لاحظوا أن المسلمين يبنون جسراً بين الشاطئ والقلعة. بعد أن حرر الشجاعي صيدا توجه إلى بيروت. بيروت التي كان بها حامية صليبية صغيرة كانت مرفأً تجارياً هاما للصليبيين. كانت سيدة بيروت ايشيفا أوف إيبلين تظن أنها بمأمن من المسلمين بسبب توقيعها هدنة مع السلطان قلاوون والد الأشرف خليل. عندما وصل الشجاعي إلى بيروت طلب من مقدمي الحامية المثول أمامه فلما أتوه قبض عليهم، ففر المقاتلون الصليبيون عن طريق البحر. تحررت بيروت من الصليبيين في الحادي والثلاثين من جويلية وأمر الشجاعي بتدمير قلاعها وأسوارها وتحويل كاتدرائيتها إلى مسجد. تحررت حيفا بدون مقاومة صليبية تُذكر. وقام الأمير سيف الدين بلبان بمحاصرة طرطوس ففر الصليبيون إلى جزيرة أرواد مقابل الساحل السوري القريبة من طرطوس، وتحررت طرطوس في الثالث من أغسطس. وبعدها عثليت في الرابع عشر من أوت. بهذا فقد الصليبيون كافة معاقلهم على ساحل الشام عدا جزيرة أرواد التي بقيت اثنتي عشر سنة في أيدى فرسان المعبد إلى أن قام المسلمون بمحاصرتها وتحريرها في عام 1302. كان الأشرف يدرك أن بطرد الصليبيين من سواحل الشام فإن قبرص قد صارت مصدر الخطر الأساسي على المسلمين. فملك قبرص كان يعتبر بالنسبة للصليبيين من الناحية الإسمية ملكاً لبيت المقدس حتى بعد تحريرها. وبعد تحرير ساحل الشام أصبحت حكومة قبرص هي الحكومة الصليبية الأكثر حماسة لمعاودة الاستيلاء على الأرض المقدسة . فقام الأشرف بتدمير كل المواقع والمدن والحصون الساحلية ليحرم الصليبيين من الافادة منها في حالة مهاجمتهم لها. ففضل الأشرف أن تبقى منطقة الساحل مهجورة طالما بقي التهديد الصليبي قائماً. * فتح قلعة الروم وتهديد مملكة أرمينية الصغرى في عام 1292 وصل الأشرف خليل ومعه وزيره إبن السلعوس إلى دمشق وانطلق منها على رأس الجيش إلى حلب ومنها إلى قلعة الروم هرموغلا مقر بطريرك أرمينيا. حاصر الأشرف قلعة الروم بعشرين أو ثلاثين منجنيقاً. وعمل الأمير الشجاعي سلسلة وشبكها في شراريف القلعة، فصعد الأجناد وقاتلوا قتالاً شديداً إلى أن إستولوا على القلعة بعد ثلاثة وثلاثين يوماً. وأمر السلطان خليل بتغيير اسمها من قلعة الروم إلى قلعة المسلمين وطلب من الأمير الشجاعي عمارتها، وعاد إلى دمشق بالأسرى المكبلين بالأغلال، وكان من ضمنهم بطريرك الأرمن. وقام أهل دمشق باستقبال الجيش بآلاف الشموع المضيئة وتزينت المدينة احتفالاً بالنصر، ومن دمشق توجه الأشرف إلى القاهرة التي تزينت له من باب النصر وصعد إلى قلعة الجبل من باب زويلة واستقبلته رعيته المحتشدة والمبتهجة بآلاف الشموع. كانت مملكة أرمينية الصغرى، أو مملكة قليقية، من ألد أعداء الدولة المملوكية، حيث شاركت في الحروب الصليبية ضد المسلمين وتحالفت مع المغول عليهم وكان لها قوات شاركت في صف المغول في معركة عين جالوت. وقد أصبحت تلك المملكة الصليبية بعد هزيمة المغول، التي أدت إلى نقص قدرتهم على حمايتها، هدفاً للماليك يغيرون عليها من حين لآخر منذ عهد السلطان الظاهر بيبرس. وبعد فتح قلعة الروم أصبحت سيس عاصمة مملكة أرمينية الصغرى مقراً للكنيسة الكاثوليكية الأرمينية. تجهز الجيش في دمشق بقيادة الأمير بيدرا نائب السلطنة، ثم لحق به الأشرف بعد أن توقف في الكرك لترتيب أحوالها، وأمر بالتجهيز لأخذ بهنسا من الأرمن. فلما علم الأرمن بنية الأشرف أرسلوا له الرسل يرجون منه عدم مهاجمة مملكتهم، فتم الإتفاق على تنازل الأرمن عن بهنسا ومرعش وتل حمدون في مقابل عدول الأشرف عن مهاجمتهم، فأرسل الأشرف الأمير طوغان والي البر بدمشق مع رسل الأرمن إلى تلك المناطق لتسلمها فصارت في حوزة المسلمين بغير قتال. * نهاية الصليبيين أنهى الأشرف خليل عملية تقويض الحلم الصليبي التي كان قد بدأها الناصر صلاح الدين وأكملها الظاهر بيبرس والسلطان قلاوون. بسقوط عكا والمراكز الصليبية على ساحل الشام تبخر الحلم الصليبي الذي عمل الصليبيون خلال مائتي عام على تحقيقة بكل جد ودون كلل وكلفهم المال والرجال. بعد سقوط عكا حاول بابا الكاثوليك نيقولا الرابع فعل شيء يعيد للصليبيين مكانتهم وهيبتهم، وقام فور سماعه بسقوط عكا بتحميل عشرين سفينة بالمقاتلين في أنقونا وجنوا وأرسل بها إلى قبرص، وقامت تلك السفن بعد أن انضمت إليها سفن الملك هنري بغارة فاشلة على حصن تركي على ساحل الأناضول وغارة كر وفر على مدينة الإسكندرية في مصر، غلاً وحقداً على انتصارات الأشرف وجيش المسلمين، ولكن البابا نيقولا مات في سنة 1292 دون تحقيق أكثر من ذلك. أما ملوك أوروبا فقد دخلوا في صراعات داخلية كالحرب المريرة التي نشبت بين فرنسا وإنجلترا في عام 1293 ولم يعد في استطاعتهم تنظيم حملات صليبية جديدة. أما فرسان المعبد فقد كانت نهايتهم مأساوية في أوروبا بعد أن تورطوا في مشكلات مالية مع ملك فرنسا فيليب الرابع واتّهمهم البابا كليمينت الخامس بالهرطقة فتمّ الإستيلاء على ثرواتهم ولعنوا وألقي بهم في النار. * صراعات داخلية واغتيال الأشرف خليل عسكرياً، كان الأشرف خليل يملك مواهب وطاقات بعض من سبقوه كالظاهر بيبرس ووالده قلاوون. ولكن الأشرف لم يصادف هوى الأمراء منذ البداية. فقد بدأ حكمه بالقبض على أمراء أبيه وأعدم بعضهم مثلما فعل مع الأمير طرنطاي نائب سلطنة أبيه. بعد فتح عكا قام الأشرف بالقبض على حسام الدين لاجين، وبعد عودته منتصراً إلى القاهرة أعدم بعض كبار الأمراء من بينهم الأمير سنقر الأشقر. ومن جهة ثانية عمد الأشرف إلى تفضيل المماليك والأمراء البرجية من ذوي الأصول الشركسية على المماليك والأمراء من ذوى الأصول التركية مما خلق حالة من التنافس والكراهية بين الأمراء. بعد عودة الأشرف من الشام إلى مصر منتصراً تملكته مشاعر الغرور والتعاظم فراح يعامل الأمراء بخشونة واستخفاف وأصبح يعلم على الأوراق والمستندات بحرف خ فقط دون اسمه مما أغضب الأمراء. وفوق ذلك كان الأمراء يكرهون وزيره ابن السلعوس الذي أتى من سوريا، ولم يكن في الأصل أميراً أو مملوكاً وإنما كان تاجراً دمشقياً، وتقلد منصب الوزارة الرفيع بدلاً من الأمير الشجاعي، وراح يغدق عليه الاشرف ويفضله على كبار الأمراء لمكانته. وكان ابن السلعوس يتعالى على الأمراء. في شهر ديسمبر عام 1293 ذهب السلطان الأشرف إلى تروجة القريبة من الأسكندرية في رحلة صيد طيور، وكان في صحبته وزيره ابن السلعوس ونائب سلطنته بيدرا. وطلب الأشرف من ابن السلعوس الذهاب إلى الإسكندرية لتحصيل العائدات. فلما وصل ابن السلعوس إلى الإسكندرية تبين له أن نواب الأمير بيدرا قد حصلوا العائدات من قبل، فكتب للأشرف يعلمه بما فعله بيدرا. فلما بلغت الرسالة الأشرف غضب واستدعى بيدرا إلى دهليزه وراح يعنفة ويهدده في حضور الأمراء. خرج بيدرا من دهليز الأشرف مضطرباً خائفاً فجمع عددا من الأمراء من خشداشيته ومنهم حسام الدين لاجين وقرا سنقر واتفقوا على قتل السلطان. في 21 ديسمبر 1293، وبينما الأشرف يتجول مع صاحبه الأمير شهاب الدين أحمد بن الأشل، جاءه بيدرا والمتآمرون معه وكان من بينهم لاجين وألطنبغا رأس نوبة واغتالوه بسيوفهم. بعد اغتيال الأشرف توجه المتآمرون إلى الدهليز ونصبوا بيدرا سلطاناً ولقبوه بالملك الأوحد أو الملك القاهر. ولكن بيدرا لم ينعم طويلا بسلطنته حيث قبض عليه المماليك السلطانية بقيادة كتبغا وبيبرس الجاشنكير وقتلوه وأرسلوا رأسه إلى القاهرة. وقبض على الأمراء المتآمرين عدا حسام الدين لاجين وقرا سنقر الذين فرا واختفيا. وقبض الأمراء، وعلى رأسهم الشجاعي، على ابن السلعوس بعد عودته إلى القاهرة حيث حُبس وضُرب حتى الموت. بعد موت الأشرف خليل اتفق الأمراء وعلى رأسهم سنجر الشجاعي على إخفاء الأمر لبعض الوقت وعلى تنصيب أخيه الصغير الناصر محمد سلطاناٌ على البلاد ومعه كتبغا نائباً للسلطنة والأمير الشجاعي وزيراً. وكان الناصر محمد صبياً في نحو التاسعة من عمره. وأرسل إلى الحكام في الشام مكتوبا على لسان الأشرف مضمونه: (إنّا قد إستنبنا أخانا الملك الناصر محمداً وجعلناه ولي عهدنا حتى إذا توجهنا إلى لقاء عدو يكون لنا من يخلفنا) وطلب من أمراء الشام تحليف الناس للملك الناصر محمد، وأن يقرن اسمه باسم الأشرف في الخطبة. وبعد أن إستقرت الأمور ورتب الأمراء أمورهم أعلن في البلاد عن وفاة السلطان خليل ولبس جواري الأشرف الحداد وطافت النواحات في شوارع القاهرة وأقيمت المآتم وساد مصر الحزن واحتشدت العامة في الشوارع والميادين للفرجة على عقوبة وإعدام المتآمرين. دُفن السلطان خليل بالمدرسة الأشرفية التي أنشاها قرب مشهد السيدة نفيسة، جنوبالقاهرة في الشارع الذي يحمل إسمه إلى اليوم. أنجب الأشرف خليل ابنتين، ومات وهو في نحو الثلاثين من عمره بعد أن حكم البلاد نحو ثلاث سنوات، حافلة بالأمجاد العسكرية والانتصارات الساحقة. وقد كان ينوي تحرير بغداد من المغول وتعقب الصليبيين في جزيرة قبرص. كان الأشرف مولعاً بشراء المماليك حتى قيل أن عدة مماليكه في فترة حكمه القصيرة بلغت ستة آلاف مملوك. يقول المقريزي عن الأشرف أنه (كان مع ما فيه من شدة البادرة حسن النادرة، يطارح الأدباء بذهن رائق وذكاء مفرط). * نقود الأشرف خليل ظهرت على نقود السلطان الأشرف ألقاب جديدة لم ينقشها المماليك على نقودهم من قبل، مثل ناصر الملة المحمدية و محيي الدولة العباسية . نُقشت ألقاب وأسماء الأشرف على نقوده كالتالي: (السلطان الملك الأشرف صلاح الدين ناصر الملة المحمدية محيي الدولة العباسية)، (السلطان الملك الأشرف صلاح الدنيا والدين قسيم أمير المؤمنين)، (الملك الأشرف صلاح الدنيا والدين). وظهر لقب أبيه قلاوون على نقود الأشرف كالتالي: (مولانا السلطان الملك المنصور). ويُقصد بأمير المؤمنين الخليفة العباسي الذي كان يقيم بالقاهرة. * قالوا عنه قال صاحب فوات الوفيات عند ذكر السلطان الأشرف: كان شجاعًا مقدامًا مهيبًا عالي الهمة، يملأ العين ويرجف القلب. وكان ضخمًا سمينًا كبير الوجه بديع الجمال مستدير اللحية، على صورته رونق الحسن وهيبة السلطنة، وكان إلى جوده وبذله الأموال في أغراضه المنتهى، تخافه الملوك في أقطارها.