اعلموا أن التقوى مكانها القلب كما أخبر المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام، والتقوى ناجمة عن شهود الجلال والجمال، فهي مزيج من الخشية والحياء والمحبة والتسليم، من حرمها كان شقيا في الدنيا قبل الآخرة. فإن استقرت التقوى في القلب استقر معها السكون والأنس بالله والتسليم الذي يعافي من أعراض القلق والحزن والتعب، وظهرت آثارها على الجوارح خضوعا وخشوعا، وطاعة وانقيادا، وغيرة على دين الله ومحارمه، ولا يمكن لتقوى أن تستقر في قلب امرئ وجوارحه لا تنبئ إلا بالغفلة. وللقلوب مراتب في استقرار التقوى فيها وإشراقها في نفس العبد وعلى جوارحه، فأول مرتبة هي مرتبة الهداية وهي من فضل الله وكرمه، إذ يسطع نورها في قلب العبد فإذا به يضج ويتحير من جهة انجذابه إلى الحق ورغبته في الانسلاخ عن شهواته والتحرر من هواه، فإذا به يصارع متعلقاته وشواغله ويعزم على المكابدة والمجاهدة، وهو في حاله هذه يحتاج إلى من يرشده إلى الطريق ويعينه على نفسه وشيطانه، فإن استطاع أن يغالب نفسه ويغلبها ارتقى قلبه إلى مرتبة التقوى، حيث يستقر القلب على حب الله ومراضيه وبغض ما يمكن أن يسخطه عليه، يدفعه إلى ذلك حبه لمولاه والسعي في رضاه. ومن علامات التقوى في القلب أن صاحبها يتقي الشبهات خوفا من الوقوع في غضب الله، وذلك مقام من القرب لا يدانيه مقام وعلامة على الولاية الحقة كما هي عند الأولياء الصديقين، »الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور«. فان استطاع أن يتمكن قلبه في أرض التقوى ارتقى إلى مرتبة العرفان حيث يشهد فضل محبوبه عليه بأن هداه ومكنه من غلبة نفسه، ويشهد نعمه وآلاءه عليه وعلى من حوله فيكون ذلك سببا في سعادته ورضاه في الدنيا وفوزه في الآخرة، وكم رأينا من أناس غارقون في نعم الله وهم لا يشعرون بها، فكأنهم قد كتب الله عليهم الشقاء حيث لا يسعدون بما يسعد بأعشاره الكثيرون. فاذا استقر العرفان في القلب ارتقى صاحبه إلى مرتبة الهيبة، حيث يشهد عظمة الله عز وجل حتى تشغله عن النعم التي هو فيها، فكأن لسان حاله يقول: »اللهم إني أشهد أنك رب تعبد«. والهيبة تتبعها المحبة لذي الجلال والكمال، فيرتقي القلب إلى مرتبة الحب والمشاهدة (أن تعبد الله كأنك تراه) ويلزم عن هذه المرتبة الارتقاء إلى مرتبة الحياء، إذ كيف يتحرك في الحياة من يتحرك وهو يرى مولاه. فهذه مراتب كل واحدة منها تفضي إلى الأخرى فيها يتنور قلب المؤمن حتى يفيض نوره على جوارحه، وحتى يعرف بأنه ممن إذا رأوا ذكر الحق سبحانه وتعالى لما يحليهم به من أنوار، والأصل في كل هذه المراتب توفيق من الله وفضل، نسأل المولى عز وجل أن يمن علينا بهما وهو أكرم الأكرمين. أما أبناء الدنيا فقلوبهم خربة لما عجزت عن أن ترتقي في مراتب القرب من الله عز وجل، لذا تراهم يعنون بظاهر الثياب يخفون بها وجوههم وجوارحهم الداكنة المطفأة أنوارها، فهم قد ارتضوا لأنفسهم البخس وضيعوا العمر كله وهو فرصة واحدة من أجله، وكم من لذة جرت وراءها ألما وحسرات في الدنيا وفي الآخرة. واعلموا أن القلب الحي حاضر دائما مع الله تعالى يورث صاحبه ذلا وانكسارا في حضرة العزة والسلطان، وقوة وجرأة في الحق مع المخلوقين مع لين جانب ورقة ما دام الأمر في حظيرة الرضى. ثم إن هذا الحضور مما يجعل صاحبه يذهل عن نفسه وهواه في تحت وقع نبض القلب المشاهد لله تعالى وتلك هي صحة القلب وسلامته التي تغني يوم القيامة.