هل أصبحت مواقع التواصل الاِجتماعي -وبخاصة الفيسبوك- هي التي تصنع ما يُسمى ب"الرأي العام"، وليس السلطة الرابعة؟ هل خضعت الآلة الإعلامية لمنطق منصّات التواصل في إدارة المعلومة؟ وهل ساهمت التكنولوجيا بكلّ ترسانتها في خلق فضاءات بديلة عن الفضاءات الإعلامية التقليدية في صنع وتشكيل وتوجيه الرأي العام. وهل صارت نتيجة حتمية في هذا العصر المفتوح على سرعة المعلومة وتنوعها وتدفقها من كلّ الجهات وبأكثر من خلفية وأكثر من قراءة وأكثر من تحليل. في هذا السياق يقول الدكتور عادل جارش: "لا بدّ من التأكيد بأنّ شبكات التواصل الاِجتماعي هي نتيجة حتمية لحقيقة مفادها بأنّ العالم تطور وأصبح أكثر تشبيكاً وأنّ الكثير من التفاعلات أصبحت رقمية، وبالتالي ينبغي أن ندرك بأنّ دور هذه الوسائل التواصلية الجديدة يمكنها التأثير على أي شيء بِمَا فيها الرأي العام". استطلاع/ نوّارة لحرش حول هذا الشأن "مواقع التواصل الاِجتماعي وصناعة الرأي العام". كان ملف هذا العدد من "كراس الثقافة"، مع مجموعة من الأكاديميين الذين تناولوا الموضوع كلٌ من زاويته . نصر الدين بوزيان: أستاذ بكلية الإعلام والاِتصال -جامعة قسنطينة 3 مواقع التواصل تُساهم في صناعة الرأي العام ولا تصنعه لوحدها أوّلاً ومن باب التصويب المفهمي، مواقع التواصل الاِجتماعي هي جزء من السلطة الرابعة فوسائل الإعلام في المجتمعات المُعاصرة أصبحت سلطة على غرار السلطات التشريعية، التنفيذية والقضائية، وهي على حد تعبير أحد المُنظرين سلطة تتحكم في باقي السُلط من خلال التأثير فيها بطريقةٍ أو بأخرى. صحيح أنّ القوّة المُتنامية والمُتزايدة لمواقع التواصل الاِجتماعي أوجدت ثنائية ما يُسمى بالإعلامين التقليدي والجديد؛ الأوّل يرتبط بالصحافة، الإذاعة، السينما، والتلفزيون، والجديد يرتبط على وجه الخصوص بمواقع التواصل الاِجتماعي. وكلاهما يُساهمان في صناعة الرأي العام. بطبيعة الحال مواقع التواصل الاِجتماعي لها عدد من الخصوصيات التي باتت تُثير النقاش في الفترة الأخيرة، والحقيقة أنّ المُختصين ولاسيما في الإعلام لفتوا الاِنتباه لمُجمل ما وصلنا إليه من اِهتمام اِبتداءً من سنة 2006 (تاريخ ظهور الفايسبوك). وترتبط هذه الفترة بظهور ما يُسمى بالاِنترنت 2.0 أي شبكات التواصل الاِجتماعي والانترنت التشاركي الّذي يسمح بإنتاج ومشاركة المضامين الإعلامية، إنّها مرحلة تَحوّل هامة في تاريخ وسائل الإعلام والاِتصال لأنّها نقلتنا إلى مستوى آخر من التأثير ككلّ وصناعة الرأي العام كجزء من تأثيرات وسائل الإعلام. وينبغي إبراز فكرتين جوهريتين؛ أوّلاً هناك نقلة عملاقة في دراسات الجمهور خاصةً بعد الاِنتقال سريعًا إلى الانترنت 3.0 أي توظيف الخوارزميات في عمليات الاِستهداف والتأثير، فالدراسات الجماهيرية السابقة كانت تقريبية تعتمد على العينات أساسًا. وبحكم دينامية وحركية الجمهور واتساعه كان من الصعب مواكبة الجمهور بشكلٍ دقيق وجمع مختلف البيانات المُتصلة به لاِستثمارها في عملية التأثير على غرار صناعة رأي عام حول حادثة أو قضية ما. في حين تسمح مواقع التواصل الاِجتماعي ومنها الفايسبوك بجمع قواعد بيانات آنية ومُتجدّدة تُقدم المعلومات الضرورية عن الجمهور في حينها (عند كلّ ولوج للفايسبوك مثلاً، يتم جمع الكثير من البيانات بخصوص عملية اِستخدامه، سواء التفاعل مع المواضيع، طبيعة ما يتم التعرض له، الموقع الجغرافي...) وبالتالي زيادة فُرص التأثير والاِستهداف وتحقيق الغايات.. وعديدة هي الدراسات التي أبرزت تأثير الفايسبوك مثلاً في الرأي العام خلال فترات الاِنتخابات، نذكر بريطانيا والولايات المتحدةالأمريكية وتأثيره أيضا في تشكل رأي عام تجاه الكثير من الأحداث والقضايا.. ثانيًا: تغير الهيمنة على السلطة الإعلامية فبعدما كانت تُهيمن عليها مؤسسات تقليدية أصبحت شركات مواقع الاِتصال الفاعل الجوهري في الإعلام الدولي وحتّى المحلي، والقاعدة الإعلامية تقول من "يملك يُوجه"، فالفيسبوك مثلاً معروفة اِتجاهاته وأهدافه ليس التجارية فحسب.. بمعنى آخر لا يمكن إنكار الهيمنة على الإعلام في إطار منظومة سابقة اخترقتها مواقع التواصل الاِجتماعي لتفرض هيمنتها وتخدم (أهدافا) بوسائل وأدوات يبدو أنّها أكثر نجاعة وأكثر فاعلية وأخطر بكثير بالنظر لأبعادها الأمنية والتنموية.. ومن باب الاِختصار، أحبذ القول أنّ مواقع التواصل الاِجتماعي تُساهم في صناعة الرأي العام ولا تصنعه لوحدها فهناك جملة من الاِعتبارات الأخرى التي لا ينبغي إلغاؤها، فهي فاعل محوري قد يجيد الاِستفادة من سياقات ومعطيات بنجاعة كما قد يفشل في ذلك. وهنا نتعدى دور الوسيلة إلى العقل الّذي يُدبرها، فهناك تخصصات جد حيوية ترتبط بالهندسة الاِجتماعية والنفسية والتي تُوظف جملة من التقنيات المعلومة عندنا كمتخصصين في الإعلام والاِتصال والتي تمتد لتخصصات أخرى تمس سيكولوجية الجماهير ومجالات أخرى. وفي الأخير، أريد التركيز على نقطتين ما دام السؤال يُركز على مواقع التواصل الاِجتماعي والرأي العام، أوّلاً ضرورة الوعي الجماهيري بمخاطر مواقع التواصل الاِجتماعي الدائمة وخاصةً أثناء الأزمات، ومِمَّا ندعو إليه تفعيل التربية الإعلامية، ولدينا بالمناسبة تصوّر مُتكامل عن آليات تنفيذه..، وثانيًا وكاِمتداد للنقطة الأولى أحب أن أُحذر مِمَّا يُعرف بحروب الجيلين الرابع والخامس التي تسعى مِمَا تسعى إليه لزرع الفتنة والشكّ خاصةً بين مؤسسات الحكم والمواطنين، وخلال الحرائق الأخيرة يمكن أن نقف على الكثير من المُمارسات التي تندرج في هذا الإطار لكن جزء مهم منها كُشِف أمّا المساعي الأخرى والدائمة فكثيراً ما لا تُكشف وتخدم أهدافها المُهددة للأمن الوطني، فالحذر كلّ الحذر. مصطفى ثابت: أستاذ محاضر -قسم علوم الإعلام والاتصال - جامعة قاصدي مرباح ورقلة فضاء للحريّة و للتضليل أيضاً تُعتبر شبكات التواصل الاِجتماعي عامة وشبكة الفايسبوك خاصة من أبرز مظاهر تطوّر تكنولوجيات الاِتصال الحديثة، فالفايسبوك منذ ظهوره مع مطلع الألفية الثانية وهو في تطوّر مُتسارع وانتشار سريع بين فئات المستخدمين حتّى استطاع أن يصبح في ظرف وجيز مُنافسًا بارزاً أمام وسائل الاِتصال الجماهيري التقليدية، ويخلق جدلاً علميًا وعمليًا في طبيعة علاقته مع تلك الوسائل من زاويتين، الأولى تتعلق بجذب اِهتمام الجماهير وتوسيع قاعدة المستخدمين لأهداف تقنية وأخرى اِقتصادية، والثانية تُعنى بالمساهمة الفعّالة في تشكيل أرائهم والتأثير على أفكارهم واتجاهاتهم الأيديولوجية. فأمّا بخصوص المُنافسة حول جذب اِهتمام جمهور المستخدمين فإنّ الفايسبوك ومن خلال خصائصه وما يتميّز به من سهولة في الاِستخدام أمام كلّ فئات وأطياف الجمهور، وتنوع محتوياته بتنوع تخصصات ومجالات الحياة، وإمكانية تجاوزه للحدود الزمكانية، وسرعة وآنية النشر فيه، وكذا جاذبية وسائله ووسائطه المُتعدّدة جعلت منه محل اِهتمام من قِبل الجمهور، وخاصةً الشباب منه الّذي يبحث دائمًا عن الجديد والتجديد. وأمّا عن مساهمة الفايسبوك في تكوين آراء المستخدمين والتأثير على اِتجاهاتهم الفكرية فقد شكل الأخير مجالاً عموميًا اِفتراضيًا سمح لجمهوره بتبادل الأخبار والمعلومات، والتفاعل مع كلّ ما يُنشر من مواضيع وقضايا، والتعبير عن آرائهم نحوها بكلّ حرية وبدون قيود من أي جهة كانت، بل وحتّى طرح القضايا التي تدخل في خانة الطابوهات الاِجتماعية أو المواضيع التي تتحفظ عنها وسائل الإعلام التقليدية لأسباب سياسية أو اِقتصادية أو اِجتماعية، وبالتالي تجاوز الرقابة المفروضة على حرية النشر، وسمح لجمهور المستخدمين بالمشاركة الاِيجابية في صنع المحتوى الإعلامي، والمُساواة في ذلك بين كلّ فئاته على اِختلاف أنواعها، وهذا ما يُؤثر أحيانا على أجندة نشاط وسائل الإعلام التقليدية نفسها، ويُجبرها على مسايرة واختيار القضايا المطروحة في الفيسبوك والنقاشات الدائرة حولها. لهذا فالفيسبوك ومن خلال سماته المُتعدّدة وبصفته شكلاً من أشكال صحافة المواطن وفِعلاً ديمقراطيًا فتح مجالاً رحبًا لكلّ فئات الجمهور لتبادل الأدوار بين المُرسل والمُتلقي مُحققًا في نفس الوقت كلّ ملامح الفضاء العمومي الاِفتراضي، أين فسح المجال وبكلّ حرية لطرح القضايا ونقدها، وفتح نقاشات عادلة حولها بين كلّ أفراد المجتمع من أجل تكوين رأي عام نحوها، وإنتاج إرادة جماعية واِجتماعية تخدم المصلحة العامة أو تُؤثر على قرارات السلطة أو المسؤول. وتتجلى قوّة تأثير الفيسبوك من الفضاء الاِفتراضي إلى الفضاء الواقعي حين يحدث التغيير بشأن العديد من القضايا والمواقف الاِجتماعية والسياسية والاِقتصادية، ولعلّ أفضل نماذج تأثير الفيسبوك على تكوين الرأي العام تتجلى أكثر في الدول النامية. ورغم هذا التفاؤل حول مساهمة الفيسبوك في تشكيل الرأي العام إلاّ أنّه كثيراً ما اُستغل كفضاء لتحقيق أهداف ومصالح خاصة لأفراد وجماعات بعينها من خلال تزييف الحقائق وتضليل المستخدمين، خاصةً وأنّ هذا الفضاء كثيراً ما يُعاني من ظاهرة الأخبار الكاذبة، ونشر خطاب الكراهية من قِبل الجماعات المُتطرفة، ناهيك عن ظاهرة التجسس وانتهاك الخصوصيات الفردية والجماعية لتحقيق أهداف أصحاب القوّة العلمية والتكنولوجية، لأنّ الفايسبوك وإن كان ظاهره خلاَّقًا فهو في النهاية أداة للهيمنة اِجتماعيا وسياسيا واِقتصاديا وثقافيا ليبقى وعي المُستخدم هو الفيصل بين هذا وذاك. يعقوب بن صغير: أستاذ بكلية الإعلام والاِتصال - جامعة قسنطينة 3 الآلة الإعلامية خضعت لمنطق منصّات التواصل مع تعاظم دور وحضور منصّات التواصل الاِجتماعي في إدارة المعلومة المجتمعية ونشرها على أوسع نطاق مُمكن بين مستخدميها بات من الضروري اليوم إعادة مُساءلة جدوى وسائل الإعلام الثَّقيلة واستجواب وظائفها المُمكنة سيما عند الأزمات الصحية والاِضطرابات الاِجتماعية التي تلبس سياقنا الرَّاهن. بالأمس القريب حرائُق غابات مُفاجئة فقدنا فيها 69 شخصًا من المدنيين والعسكريين ومعهم ثروة غابية واسعة في شمال الجزائر، ثمّ جريمة بشعة راح ضحيتها شاب ثلاثيني هزَّ قلوب الجزائريين تعاطفًا، منشورات تترجى الوطنية والوحدة، وأخرى تصطاد في مياه الكراهية والإقصاء... ليس هذا موضوعنا، وإنَّما سؤال وسائل الإعلام الثقيلة كيف رافقت ميدانيًا هذه الأحداث تصورًا، تحريرًا... نشرًا وبثًا؟! ماذا يجري؟ كيف يجري؟ وما العمل اللَّازم؟ الواقع يُثبت أنّ الآلة الإعلامية على اِختلاف أشكالها ومواقعها وفي أغلبها بقيت على خط التَّماس وخضعت لمنطق التَّسرع في نشر المعلومة والخبر السَّريع الّذي يتداوله ويُشاركه النُشطاء على مضمار التَّواصل الشَّبكي وفي مقدمته موقع الفايسبوك -الأكثر اِستخدمًا في سياقنا التواصلي-، قنوات إعلامية وصُحف تصل إلى جماهيرها عبر القارب نفسه وبالحمولة نفسها، لا جديد يُذكر فكلّ شيء قِيل وشُوهِد ونُوقِش اِفتراضيًا. هل يُعقل أنّ يستند الصحفي إلى خبر مجهول المصدر دون تحقّق وينقله عبر صوت المؤسسة الإعلامية التي يشتغل لصالحها؟ كيف يمكن أن نثق بعد هذا في أخبار العاجل والهام والحصري التي تُوشح الشاشات والصُحف؟ لا يمكن الأخذ بالأخبار التي نطلِع عليها عبر الفايسبوك وما جاوره من منصّات، لأنّنا لا نعرف من يكتب ولمن يكتب؟ وفي أي سياق يُكتب؟ فأين هو مبدأ "التَّحقّق من الخبر"؟ لا شك أنَّها أزمة مغايرة تضرب صناعة الأخبار في العوالم الرَّقمية الجديدة "إعادة تدوير المعلومة نفسها" وإنتاجها بالطريقة ذاتها. لقد فقدت الكثير من قاعات التحرير سلطتها في حيازة الخبر وملكيته الحصرية وبالتالي فقدت اِتزانها في مُمارسة مهنة لها ضوابطها وقواعدها وشروطها المتفرِّدة. التَّسرع -لا السرعة- في تداول المعلومة دون التحقّق منها أوقع البعض من الصحفيين والمراسلين في شباك المعلومة الطائشة، المغلوطة والكاذبة... في وقتٍ اِنفلت فيه الخبر لحظة الأزمة من قاعات التَّحرير وصحفييها، واحتضنه الشَّارع -الشاهد في الميدان- بالكتابة والنشر وإيصال الحقيقة كاملةً بتفاصيل التفاصيل وفي عين الأزمنة والأمكنة والأحداث. هل أدى الصحفيون أدوارهم في الميدان على أكمل وجه؟ هل اِقتنع الجمهور بِمَا قرأه وشاهده واستمع له؟ هل هو راضٍ؟... طبعًا لسنا في مقام الإجابة، لكن وبمنطق مهنة المتاعب لا يمكن البتَّة أن تختصر الآلة الإعلامية دورها في نقل الحدث من زاوية "هذا ما يحدث" ومُمارسة بعضها للعبة العرض والمنع بتفكير السوسيولوجي Pierre Bourdieu، لا يعقل أن تكون غُرف الأخبار فارغة، صامتة وعاجزة في مُسايرة الحدث والاِكتفاء بمراسلين صحفيين يتنقلون بين عائلات ضحايا الواجب الوطني برصد صرخات ودموع الأمهات والآباء! والتشبث بالقصص التي تحفل بالمآسي الإنسانية، والتَّغاضي عن اِستقصاء الحقيقة التي هي عين المهنة. الصحفيون المثاليون هم أولئك الذين ينقلون لنا اللَّحظة ويصورونها وسط لهيب النيران، يُشعروننا بالخطر الّذي يعيشه إخواننا وقت الكارثة الطبيعية... يستقصون شهود العيان، يُوصِلون أصوات وصرخات وآلام الساكنة في القُرى والمداشر.. باِختصار هم أولئك الذين لا يُصورون الدموع وهي تسيل على الوجه، وإنَّما يمسحونها ويسعون إلى إعادة البسمة لها من موقعهم كصحفيين يتوسطون عامة الشعب وصُناع القرار. إذن: على وسائل الإعلام أن ترفع نسق المُمارسة الإعلامية وتُجسد شِعار الحق في المعلومة، المعلومة الكاملة والمُتحقق منها ميدانيًا، وأن تأخذ هذه الصناعات على عاتقها مسؤولية صناعة الوعي بالدرجة الأولى: على وسائل الإعلام أن تُعيد الحفر أكثر في "قاعدة المجاورة" كأساس عملياتي في صناعة الأخبار الصحفية بِمَا يضمن نقل الحقيقة التي يحتاجها الجمهور أساسًا. على وسائل الإعلام أن تسهم في خلق الحلول ولو تصوريًا من خلال مصادر أخبارها، منتجاتها وضيوفها، أن تتجاوز نقل الحدث كما هو، أن تُمارس سلطتها في القول بكلّ موضوعية وجرأة ومسؤولية. على وسائل الإعلام أن تتجاوز التَّحرير الظَّرفي تحت العاطفة وحماس رواد مواقع التَّواصل، وأن تتوقف عن نسخ المنشورات ومشاركتها ولصقها.. في مُمارسة لا مهنية بعيدة كلّ البُعد عن القيم الإخبارية وأخلاقيات مهنة الصحافة. في النهاية، هذا ما جنته علينا منصّات التواصل؛ فبقدر العطايا والفُرص الكثيرة التي منحتها لفضاءاتنا الاِجتماعية، بقدر الضربات المُوجعة التي اُبتلينا بها... الجميع يتكلم، الجميع يقول بل الجميع يهذي. لم يخطئ ذات يوم المفكر والروائي الإيطالي Umberto eco في حواره الّذي أجراه مع جريدة Le monde حينما وصف ما يحدث من فوضى في المواقع التواصلية ب"غزو الحمقى"، لقد كان يستهدف بهذا الوصف أولئك العوام الذين أخذوا زمام الكلمة وسلطة القول، أولئك الذين يُناقشون كلّ شيء وفي أي شيء! أيعقل أن يتكئ بعض الصحفيين على ألسن ومنشورات هؤلاء؟ عادل جارش: أكاديمي وباحث في العلوم السياسية شبكات التواصل تسيّر المتلقي بطريقة لا إرادية أصبح لشبكات التواصل الاِجتماعي وقع جد مهم في صناعة أو التأثير على الرأي العام لاسيما في العشر سنوات الأخيرة، والتي يمكن توصيفها ب: "السبايس الرقمي المُكثف" نظراً لزيادة اِنتشار اِستخدام هذه الشبكات بمعدل يتجاوز ال65 بالمائة من سكان العالم، ولتنامي دورها وتأثيرها على الوقائع والأحداث المحلية والدولية، سواء كان بالإيجاب أو بالسلب، فمن الناحية الإيجابية تُساهم وسائل التواصل الاِجتماعي في نقل الأفكار والآراء حول قضية معينة لعدد كبير من الأشخاص، وبذلك فهي تُتيح المجال لبلورة رأي أو توجه عام حولها، ويرجع ذلك إلى ما تتميّز به هذه الشبكات من قدرة على التأثير الكمي من خلال عملية التكرار والخوارزميات التي تُحدّد ما يُمكن للقارئ مُشاهدته وقراءته، والتي بدورها تُؤدي مع مرور الوقت إلى تسيير لا إرادي لتوجهات المُتلقي حول القضايا السائدة في واقعه، حتّى أنّ العديد من المُحللين صنفوا هذه الشبكات كأحد أهم الفواعل والوسائط المُحرِكة للتطورات والأحداث الراهنة ليس فقط على المستوى الوطني بل حتّى العالمي، أمّا من الناحية السلبية فقد يُمثل هذا النوع من الفضاء الاِفتراضي منصّة مثالية للجماعات المُتطرفة والإرهابية لنشر أفكارها الهدامة وتجنيد الشباب وغسل أدمغتهم بأفكار سلبية وخاطئة. ولا شكّ أيضاً أنّ ما حصل خلال عشر سنوات الأخيرة من أحداث وتطورات في مختلف الأقطار العربية والعالمية كانت فيه لشبكات التواصل الاِجتماعي خاصةً الفايسبوك والتويتر أدوار كبيرة في التعبئة والتجييش من خلال التركيز على أحداث ووقائع مُعينة وتفصيلها بالصورة والصوت والكلمة لتُمثل فيما بعد تمهيداً لتحريك رأي عام حول واقع مُعين في ظرف جد وجيز، وهو ما عجزت في الكثير من الأحيان عن إنجازه وسائل الإعلام الكلاسيكي –السلطة الرابعة-، والتي يبدو أنّها فقدت بريقها المُكتسب عبر التاريخ لصالح مواقع التواصل الاِجتماعي لعدة أسباب، ومن بينها تحوّل هذه الشبكات إلى ما يُمكن تسميته ب: "إعلام الشارع الحديث" Street Media الّذي يتميز بالحرية مُقابل الإعلام التقليدي المُسيطر عليه من طرف الدول أو الطبقات السياسية والاِجتماعية، الّذي يعكس تصورات فئة مُحدّدة فوقية تشمل النّخبة والمُثقفين والسياسيين، بينما تهمل أصوات القاعدة الشعبية، لذلك يلجأ الشباب إلى اِستخدام شبكات التواصل الاِجتماعي لنقل مشاغلهم وللتعبير والتنفيس عمَّا بداخلهم، فهو يرفع لهم سقف الحرية الإعلامية، ويعمل على نقل أفكارهم ورسائلهم إلى المؤسسات والجماهير في ظرف جد قياسي وبشكل سهل وغير معقد، وربّما يُتيح لهم أيضاً تكوين آراء وتغيير مواقف الجمهور حول قضية ما، ومن ناحية أخرى فإنّ ثراء هذه الشبكات بالمعلومات، وقلة تكلفتها، وقدرتها على جذب الأشخاص ومُمارسة وظائف أخرى كالتسويق جعلها محل اِهتمام من طرف الأفراد مُقارنةً بالوسائل التقليدية الإعلامية الأخرى. ومن منطلق آخر فلا بدّ أيضاً من التأكيد بأنّ شبكات التواصل الاِجتماعي هي نتيجة حتمية لحقيقة مفادها بأنّ العالم تطور وأصبح أكثر تشبيكاً وأنّ الكثير من التفاعلات أصبحت رقمية، وبالتالي ينبغي أن ندرك بأنّ دور هذه الوسائل التواصلية الجديدة يمكنها التأثير على أي شيء بِمَا فيها الرأي العام، فحدوث واقعة مثلاً كقضية قتل وحرق جمال بن إسماعيل أصبحت من خلال شبكات التواصل الاِجتماعي في غضون ساعات قليلة قضية رأي عام، والمطالبة بمحاسبة المتورطين في الجريمة أيضاً عبرها أصبحت مطلبًا شعبيًا، كما لا يخفى أيضاً بأنّ الدول والأنظمة اليوم أصبحت تخشى من محتوى هذه الشبكات نظراً لتحولها من وسيلة تواصلية تهدف إلى الربط الشبكي بين ملايين البشر الذين تجمع بينهم صداقات ومعارف وزمالة مهنية إلى وسائل ومنصّات يتم فيها تداول محتوى إعلامي يتمّ إعداده من طرف هُواة ومحترفين لتوجيه الرأي العام وتغليطه بغرض زرع البلبلة والفوضى. رضوان مجادي: أستاذ وباحث في العلوم السياسية المُحرك الرئيس لقضايا الرأي العام والمحُدد الّذي تتم به صناعته لم يعرف العالم سلطة تأثيرية كالتي يُمارسها الوجه الحديث للإعلام من خلال اِستخدامات التكنولوجيا، أو ما يُعرف بالديمقراطية الرقمية التي أصبحت تقاس بها درجة اِنفتاح الأنظمة السياسية على الرأي العام. ولعلّ اِستخدامات مواقع التواصل الاِجتماعي، باتت هي المُحرك الرئيس لقضايا الرأي العام، وأصبحت تُشكل هاجسًا رقميًا يحمل قيمتين؛ الأولى تترجم درجة قوّتها وقدرتها على تجاوز حدود (الزمكانية) الأنظمة السّياسيّة وأفضيتها العمومية الرسمية، والقيمة الثانية تعكس مخرجات العملية التفاعلية بين مواقف الجمهور، وما إذا كانت الأخيرة تُشكل رأيًا عامًا مُوجّهًا وضاغطًا -بغض النظر عن مدى فعاليّته وتعقله- ضمن سياق اِفتراضي يُعلي من شِعار "اِحذر نحن نراك" أم سيكون صداها الرقمي عبارة عن موجة عابرة غير مُؤثرة. ما أسمته بعض الدراسات المُتخصصة ب: "الجمهورية الاِفتراضية"؛ هو المعطى الرقمي الّذي ولدته اِستخدامات التواصل الاِجتماعي بشكل لا مُتناهي، جعل من الرأي العام يتناقض مع ما يُسمى بالسلطة الرابعة؛ أو على الأقل تجاوز حدودها ومُمارساتها؛ من حيث المضمون والتنظيم طبعًا، بدليل أنّ ما عجزت عنه وسائل الإعلام التقليدية في ترتيب أجندات الرأي العام وتعبئة مواقفه بِمَا يخدم السياسة العمومية ويُراقبها، قد تجاوزته الثورة الرقمية عن طريق هيمنتها على عقل الفرد وقدرتها الهائلة على تأطير الرأي العام، وفي ظرف وجيز كذلك حقّق ما أسماه "نعوم تشاموسكي" بصناعة الإجماع. فالتدفقات القيمية ما بعد العولمة لم تعد تقتصر على أبعاد العملية التواصلية القديمة فقط، وإنّما تعدت كلّ الحدود، إلى أن أصبحت تُركز على المحور الجغرافي المفتوح دائمًا على عمليات صناعة الرأي العام، إذ يحرص على الاِستثمار في مواقع التواصل الاِجتماعي؛ أي أنّ اِستخداماتها جاءت خصيصًا تحت لواء ما يُعرف بالهندسة الاِجتماعية، التي أضحت تعول على رسائل في فضاء يتسم بحركية مُتسارعة تُساعد على اِنسياب قيمها الرقمية، وتهدف إلى توجيه سلوك الأفراد صوب قضايا تخدم أجندات بعينها، وتُرتب على أساس أولويات يرسمها القائمون عليها خارج الحدود الرسمية، ومن ثمّة يبقى تأثيرها مرهونًا بطبيعة الهدف الّذي صنعت مواقف الرأي العام الاِفتراضي من أجله. إنّ مواقع التواصل الاِجتماعي عبر "الفايسبوك" هي المُحدّد الّذي تتم به صناعة الرأي العام في الوقت الراهن، كونها تُتيح الكثير من الإمكانات وتُوفر العديد من الأساليب الرقمية التي تُؤثر على اِتجاهات ومواقف أفراد المجتمع الرقمي، ودفعهم إلى تبني أجندة ودعمها ومناصرتها، وخلق بيئة تفاعلية يمكن اِستغلالها لتداول قيمها، وتتحوّل إلى قوّة جماهيرية ضاغطة في القضايا التي تُستشار رقميًا. أمّا عن فاعليتها في صناعة الرأي العام الاِفتراضي؛ فكثير من القضايا أحدثت ثورة رقمية ونزلت بقيمها إلى أرض الواقع بفضل تأثير "الفايسبوك" على مواقف وسلوكيات الأفراد، وقد ساعد الاِستخدام العريض له والإقبال المُتزايد عليه من طرفهم على تحقيق أهداف كثيرة من أجندات الهندسة الاِجتماعية. فتسارع الأحداث وانتقال قيمها في الأفضية الرقيمة جسد قوّة تأثير مواقع التواصل على الرأي العام، وساهم إلى حدٍ كبير في صناعة قضاياه، التي حظيت بالدعم والتأييد كيفما كانت المبررات الاِجتماعية والسّياسيّة، وأنّ ما عجز عن توفيره الإعلام التقليدي في تأطير عقول الحشود واقعيًا، أتاحته الوسائط التواصلية الاِفتراضية وبمختلف مسميات أهدافها؛ ثورة كانت أو تغيير أو رقابة شعبية...الخ. في الأخير، صناعة الرأي العام مرهونة بكفاءة وقوّة الوسيلة المُستخدمة، وبقدرة القائمين على صناعته بشتى الطُرق والأساليب، ولهذا فالاِتصال السريع الّذي تُحدثه مواقع التواصل الاِجتماعي؛ لاسيما الفايسبوك، بات يُطرح كسياق وصرح إعلامي جديد يُساعد على تحقيق الإجماع العام حول القضايا المجتمعية الكُبرى.