الصراوي صرخة لازالت تطلقها "العمريات" في حفلات الزفاف و الختان لا تزال العديد من الأسر السطايفية ،خاصة المحافظة منها و القاطنة بالمناطق الريفية، متمسكة بالغناء الصراوي الصامد منذ أجيال على غرار الكثير من العادات و التقاليد المرتبطة بالمناسبات العائلية كحفلات الختان و الزفاف، و كذا المناسبات الدينية. فتتدفق الحناجر بتلك "العيطات" و المواويل العتيقة التي تعودت على تفجير المشاعر المكبوتة و الأحلام المسحوقة و اختزال إرث أصيل يتحدى رياح النسيان و التغيير . هذا الفن الذي كان نسائيا أساسا ،يدرج ضمن موسوعة التراث الشعبي الثري الذي تزخر به منطقة الهضاب العليا ، ازدهر سنوات الأربعينات والخمسينات والستينات وعرف أوج قوته بعد الاستقلال، ليندثر مع ظهور التكنولوجيا الحديثة، حيث حلت مكانه الأشرطة الغنائية الصوتية و"الديجي"، فهو يشترط في مؤديه قوة الصوت ورخامته، خاصة و أن محاوره متعددة ومتنوعة تتحدث عن الوطن والثورة والتضحيات والحب وتوحيد الله والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم. و يتم استحضار الصراوي اليوم من طرف بعض السطايفيين في الحفلات و المناسبات الدينية، بعد أن كان ملازما للحياة اليومية للجدات و الأجداد قبل عشريات. الصراوي أول فنون الغناء و أقواها صدى يعتبر الغناء الصراوي النوع الأول من الغناء الذي كان راسخا و متداولا لدى سكان المنطقة، وهو يعتمد على قوة الحنجرة ورخامتها وكذا قوة الكلمات وتناغمها، فهذه "العيطة" أو الصرخة الأصيلة و المتميزة رغم اختلاف الآراء حول كيفية و أسباب ظهورها، إلا أن الجميع يتفق أن المرأة هي أول من أدى هذا النوع من الغناء الشعبي الأصيل. فالصراوي حسب الباحثين والمؤرخين في مجال التراث الشعبي السطايفي، تعود تسميته نسبة ل شجرة "الصرو" المنتشرة عبر مرتفعات وجبال ولاية سطيف، وجاء في رواية أخرى أن الريفيين كانوا يسمون المرتفعات الشاهقة الصرو وهي التي يؤدى فيها هذا الطابع الغنائي، حيث يقيس المؤدي قوة صوته من خلال ارتداد الصدى من الجبال. يعتبر الصرواي فن يرتكز أساسا على قوة و ارتفاع خامة الصوت ليصل إلى أبعد منطقة و هذا هو هدف النسوة اللاتي كن بغنيين هذا النوع الصعب من الغناء، و تقول الحكايات القديمة أن المرأة كانت تصعد إلى أعالي الجبال بعيدا عن الملء و تطلق العنان لصوتها العالي جدا حيث تعبر على ما يجوب في داخلها من أحاسيس و مشاعر، ليكون الصرواي هو ملاذها الوحيد للخروج من بوتقة المجتمع القاسي التي تعيش فيه و بالتالي يمكنها من التخلص من بعض المكبوتات التي تفرضها العادات و التقاليد الصارمة، و كانت هذه الميزة منتشرة بكثرة في الريف ،نظرا لقسوة العيش و ما تكابده المرأة الريفية من معاناة. أرّخ لمجازر 8 ماي 1945 و أحداث ثورة التحرير مع بداية فصل الصيف تعود هذه الصرخة إلى الواجهة، فلا يكاد عرس يمضي إلا وحضر هذا التقليد الذي و إن قل أداؤه إلا أن تسجيله ضمن برنامج الفرحة ضرورة، و يمتاز هذا الفن على باقي الطبوع الأخرى بنوع من القداسة، فما تكاد أحد النساء خاصة المسنات تبدأن في إطلاق العنان لصراخها إلا و أنصت الجميع نساء و رجالا إلى غاية الانتهاء في شكل يوحي على مدى قداسة هذا الفن العريق. فاطمة حشايشي إحدى رائدات الصراوي تتحدث عن تجربتها تعتبر الشيخة فاطمة حشايشي صاحبة الصوت القوي والجهوري إحدى رائدات فن الصراوي، تقطن ببلدية صالح باي جنوبسطيف، قالت للنصر بأنها تعلمت هذا الفن عن جدتها منذ نعومة أظافرها، وقدمت خلال مسارها الطويل تراثا قائما في حد ذاته مسترسلة في الحديث :"فن الصراوي تراث لا يمكن الاستهانة به أو استصغار الدور الذي لعبه إبان ثورة التحرير أو حتى قبلها، حيث تناول العديد من المواضيع الاجتماعية والثورية التي أرخ العديد من أحداثها . لعل أهمها مجاز 8 ماي 45 ،حيث تم تأليف العديد من الأغاني حوله، لتوضيح الأفعال الشنيعة و الجرائم التي ارتكبها المستعمر الفرنسي وتتناول أغاني الصرواي أيضا مواضيع حول الحبيب والتغزل به ،خصوصا إذا كان بعيد المنال ، فالمرأة في وقت سابق كانت تعيش في مجتمع محافظ ولم تكن تستطيع التعبير عن رأيها بحرية خصوصا إذا تعلق الأمر بمواضيع الحب والإعجاب وكانت تفرغ مكنونات صدرها من خلال غناء الصراوي، في حين الرجل كان يؤدي أغان ذات مواضيع تتحدث عن الثورة والمجتمع والحب والتغزل بالمرأة. كان أبناء الريف خصوصا يعبرون عن مكنونات صدورهم من خلال تأدية هذا الطابع الغنائي الذي يتميز بضرورة خروج الصوت من أسفل البطن، حيث يجب أن يخرج المؤدي كل ما في جعبته ويتميز بطول النفس والقدرة على الأداء بصوت جهوري. وعلاوة على تناول مواضيع الثورة فقد كنا نغني أثناء موسم الحصاد فنسبح لله و نحمده على نعمته والبركات التي تنزل أثناء فترة الجني و المنتوج الوفير الذي كانت تقدمه الأرض، فهذه العملية كانت تقوم بها النساء جنبا إلى جنب مع الرجال أو أثناء خياطة الملابس للمجاهدين وطهي الطعام خصوصا "الكسرة والمطلوع" وكنا أحيانا نستعمل آلات بسيطة وتقليدية في الغناء على غرار الشكوة والطبل. الملاحظ في هذا العصر أننا أصبحنا نغني الصراوي خلال الأعراس والأفراح فقط". وعن المهرجانات التي شاركت فيها الشيخة فاطمة والجوائز التي تحصلت عليها قالت:"شاركنا في العديد من المهرجانات داخل وخارج الوطن لعل أهمها الذي كان قبل سنوات بمدينة ليون الفرنسية التي تم تكريمنا فيها، إضافة إلى إنجاز شريط وثائقي عن الصراوي، أتمنى أن يلتفت السطايفية أكثر لهذا التراث وينقذونه من الاندثار خصوصا أنه تراث لا يمكن أن يزول بسهولة وأنا بدوري أسعى لتكوين الشبان والشابات وتمرير الصرواي للأجيال المقبلة." الصراوي في بداياته المحتشمة لم يخرج عن إطار الغزل رغبة منا في تسجيل شهادات أخرى حول فن الصراوي تحدثت النصر إلى رائدات أخريات في هذا الفن، عشن في الأحياء الشعبية بالمدينة على غرار حي طنجة وحي بلير والمجاهدين. السيدة (فاطمة،ر) أكدت لنا بأن الصراوي في بداياته المحتشمة لم يخرج من إطار الغزل فقط ،لأنه عبارة عن مشاعر مخزنة لا يخرجها إلا هذا النوع من الغناء، لكن بعد انتشاره أصبح لا يقتصر على العنصر النسوي بل تعدى ذلك إلى العنصر الرجالي و حتى الجماعي خاصة في استعراضات الفروسية و الأعراس، فقد ارتبط بقصص اجتماعية، كما تغنى بكل المواضيع الثورية وحب الوطن و التباهي بالفرسان و كذا المنتوج الفلاحي بالإضافة إلى الغزل. السيدة (زليخة،ي) أكدت بدورها بأن المواطن السطايفي تعود خلال سماعه لهذا النوع من الغناء الشعبي أن ينصت بتمعن إليه ، مشيرة بأن هذا الفن يعاني من النسيان مع ظهور الآلات الموسيقية الحديثة، مضيفة:"يجب أن نتمسك به أكثر فأكثر و نضمن انتشاره من خلال تعليم البنات الصغيرات لكي يورثنه للأجيال المقبلة فلا يتعرض للاندثار". ضرورة المحافظة على فن الصراوي وإحيائه طلب السطايفية والمهتمين بالشأن الثقافي بولاية سطيف، من السلطات المعنية خصوصا التي تعنى بالثقافة الشعبية إنشاء معهد خاص أو ورشات من أجل تعليم الغناء الصراوي ودراسته كفن قائم بحد ذاته، مع إنشاء مهرجان خاص به يعرف الشبان عليه للحفاظ عليه من الاندثار، مع إجراء دراسات أكاديمية حول كلماته وتأثيرها وأبعادها، لأن التراث يبقى جزء لا يتجزأ من الأمة.