عندما خرج الشيخ محفوظ نحناح من السجن، نهاية السبعينيات، إثر اعتقاله من طرف النظام البومديني، لم يتوجه إلى منزله في البليدة، حيث كان يفترض به أن يذهب لرؤية أهله، بل توجه مباشرة إلى بيت صديق عمره محمد بوسليماني· ولما استفسره هذا الأخير عن سبب أولوية هذه الزيارة قبل الأهل، أجاب نحناح ''الدعوة قبل الزوجة والأولاد يا أخي محمد''· اليوم، لم يعد للرجلين وجود في دار الدنيا، لكن آثارهما باقية· تخلد الجزائر منذ يومين الشهيد محمد بوسليماني في ملتقى دولي جاء إليه الأصدقاء والرفقة وعمداء الدعوة الإسلامية من أقطار عديدة، ورغم 18 سنة عن رحيل بوسليماني لا يزال عشاق نهجه وفكره متشبثون بذكراه لإحيائها في أنفسهم ومحيطهم· إن قيمة الرجال الذين في وسعهم بناء الدولة وفكر مجتمع سليم لا تظهر قيمتهم إلا بعد أن تتأثر الساحة بفقدانهم· بوسليماني لم يكن رجلا عاديا في حركة الدعوة الإسلامية في الجزائر، بل كان نواة وعاملا من العوامل التي تفرض على النظام أن يضع لوزنه الشعبي والحركي وزنا، بل ويحترس أيضا من كل الجوانب وبشكل مستمر من أن تفلت من بينه زمام الأمور لتسقط بين يديه، فهو كان ثاني رجل وقع على رسالة إلى الرجل الحديدي هواري بومدين تحت عنوان ''إلى أين يا بومدين؟''· لدى إصدار هذا الأخير الميثاق الوطني سنة 1976 ورأى فيه آنذاك الرجل رفقة ثلة من رفقائه الذين كانوا ينشطون تحت لواء جماعة الموحدين، تخليا صريحا عن أهم لبنة في بيان نوفمبر، وهي بناء دولة جزائرية ديمقراطية شعبية، في إطار المبادئ الإسلامية· ولم يثن السجن، بوسليماني عن نهجه وفكره ومبادئه بل واصل بها إلى غاية عهد التعددية وإنشائه جمعية الإرشاد والإصلاح التي عارضه مقربون لعدم تأسيسها كحزب سياسي، وكان تبرير الرجل يومها أنه ''مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، كما لا أريد استباق الأمور قبل أن يتجذر العمل الخيري والتربية والتهذيب المتشبع بالروح الإسلامية النقية الوسطية المعتدلة، وسط المجتمع الجزائري''· بوسليماني لم يكن قائدا لتيار طالما أرهب أنظمة الحكم داخل وخارج الجزائر، بل كان منظرا وذو نظرة ثاقبة اجتماعيا ودينيا، إلى درجة أن الجماعة الإسلامية المسلحة وجماعة الشباب الحر اللتين تبنتا اختطافه نهاية 1993 أرادتا أن تستمد شرعية لأعمالها الإجرامية من خلال حمله عنوة على إصدار فتوى تستبيح بها دماء الجزائريين ونشر نهجهم وفكرهم التكفيري الدموي، إلا أن الرجل آثر أن يقدم حياته في سبيل أن تكون كلمة الله هي العليا، على أن يكون سببا في دم الجزائريين· لقد شكل موقفه ضربة قاضمة للفكر التكفيري للجماعة الإسلامية المسلحة التي ظلت تحاول افتكاك فتوى منه طيلة أشهر دون جدوى، فما كان لها إلا أن تتخلص منه للمضي قدما في دمويتها وتصفية كل العناصر البوسليمانية لتكريس الدموية· النموذج البوسليماني أو الظاهرة البوسليمانية في تربية النشء السياسي داخل حركة مجتمع السلم والإرشاد والإصلاح، كان يمثل بالنسبة لكثيرين من رجالات الدولة النافذين أمثل نموذج وخيار يمكن أن يعمل النظام به على مواجهة الفكر التطرفي في التسعينيات، وبدل أن يؤمّن النظام الذي كان يسير بنظرية ''الكل أمني''، عليه وعلى أمثاله وعمل معهم اليد في اليد، كانت الجماعة الإسلامية المسلحة أذكى في إدارة الصراع، باغتياله وتصفية العناصر المعتدلة التي يمكنها أن تجابه فكرهم بالفكر الوسطي المعتدل، وبالتالي تفويت فرصة تقصير عمر الأزمة على الجزائر·