كان الوَلَد من سوء طالعه قد بلغ الثامنة عشر من عمره في اليوم الذي أخذوه إلى قسم الشرطة· ظنّ الجميع، وكذلك ظنّت الوالدة، وظنّ الوالد، وظنّ أيضا الأُخوة الثلاثة، وظنّت الأخت الكبرى المطلّقة ذات السبعة والعشرين خريفا أسودا، وظنّت الجدّة كذلك، وظننْت أنا أنّ الشرطة ستطلق سراح الولد قبل انتصاف ليل ذلك اليوم، وأنّه سيعود إلى البيت، وأنّه سيبيت اللّيل في فراشه· ولكنّه ظلّ في القسْم حتى صباح اليوم الموالي، فانقلب الظّن شكاً وريبة، ثمّ اختلج الصدرَ خوفٌ وجزع، وباتت العائلة في همّ وغمّ كأنّه الموت قبض روحَ فردٍ من أفرادها، أو كأنّه الحداد، نُكّس فيه الحديث والكلام· ''بلغ الأمرُ وكيلَ الجمهورية· ما بيَدنا حيلة يا يمّا ! أجلبوا عشاءه لأنّه سيبيتُ اللّيلة معنا''· هكذا كان جواب الشرطيّ الوقور، يردّ على توسّل أمّ الولد قبل أنْ تقع مغشيٌ عليها· كان ذلك أغرب مشهد سقْطة إغماء شهٍدْتُه في حياتي: تقع الوالدة من طولها بلا حراك، يواصل الوالد شتمه للشرطيّ، ويحاول بعض أولاد الحيّ القفز للفتك به· والوالدة وسط كلّ هؤلاء ممدّدة في الأرض وقد جمد الدم في عروقها· ومنْ سوء الطّالع الذي لازم الولد ما تركه أبدا، أنّ الاعتقال تزامن وبداية عطلة الأسبوع، ثمّ تلاها عيد الأضحى، فتعذّر على وكيل الجمهورية رؤيته· قبع في الحبْس طوال ثلاثة أيام بعيدا عن الأهل· كانت تلك أولى ثلاثة أيام يقضيها الولد بعيدا عن البيت وعن الوالدة، وبعيدا عن الوالد، وبعيدا عن الأُخوة الثلاثة، وبعيدا عن الأخت الكبرى المطلقة ذات السبعة والعشرين خريفا أسودا، وبعيدا عن الجدّة، وبعيدا حتّى عنّي أنا· ''مِنْ أجْل بضع بطاقات تعبئةٍ يُودَع الصبيّ السجن ويحاكم!! '' كذلك تساءل الوالد· ''القانون حازمٌ يا سيّد! ما كان عليه بيع أشياءٍ يجهل مصدرها''· كذلك ردّ المحامي وكيلنا وهو يقبض الثلاثين ألف دينار، ينتزعها انتزاعا من قبضة الوالد· كان المحامي طويلا طويلا· أطول محامي دفاعٍ رأيته في حياتي، بل هو أطولُ رجلٍ شاهدته من قبل· وكانت ذراعاه طويلتيْن· أطول ذراعيْ بشريّ رأيتهما في حياتي كلّها· ''هل رأيتم ذراعيْه؟! هل رأيتم ذراعيْه؟! وحق ربّي العزيز لذاك الطويل أقرب من وَلَد الجنيّ منه لابن آدم!''· هكذا علّقت الجدّة وهي تتفل ثلاثا في صدرها، تتعوّذ بالله من الشّيطان الرّجيم· ثمّ أنّ المحامي كان كثير الكلام· يعجَبُ الواحد منّا منْ أين يجيء بكلّ هذه الكلمات· وكلّ هذا البُصاق! سمعْته يكلّم الوالد في إجراءات المثول أمام القاضي، وفي حقوق موكّله، وفي المرافعات، وفي أطراف الدعوى، و في حضور المتّهم، وفي سماع الشّهود، وفي أحكام الجنح، وفي التّلبس بالجنح، وفي أحكام وقف التّنفيذ، وفي إجراءات التّنفيذ، وفي التأجيل، وفي العقوبات وفي قوانينها، والوالد لا يفقه شيئا ممّا يقول حتّى قوله: ''كنْ واثقا أنّي سأضمن الإفراج عنه''· الإفراج عن الولد البريء كان أكيدا· لكنْ ما لم يتأكّد هو متى سيُفرج عنه؟ مرّت الأسابيع تِباعاَ: في الأسبوع الأول، غاب محاميُ الطرف المتضرّر، شركة الاتصالات التي فقدت بطاقات التعبئة· إستمع قاضي الجلسة للطرفيْن في الأسبوع الثاني، وأُجّل النطق بالحكم لأسبوعيْن كامليْن· ''الغرامة والحُكْم بعامٍ مع وقْفِ التّنفيذ· هذا أفضل ما يمكن الحصول عليه· مبروكٌ عليكم!''· عاد الولد أخيرا إلى البيت، فأُقيمتْ الأفراح· وجاء الأصحاب، والجيران، والأقارب، وجاء الفضوليون، وجاء المحامي ليجعل الوالدة يُغمى عليها من جديد، وليجعل الجدّة تتعوّذ من جديد، والوالد يتساءل من جديد: - ما لزوم الاستئناف؟ ما لزوم الاستئناف بعد شهرٍ من صدور الحُكم؟ - مِنَ الممكن أن يثبَّت الحكم الصادر سلفا، وقد يخفّف· هذا محتمل· - لكنْ لماذا يطلب النائب العام الإستئناف؟ ''واشْ فَرّاه؟'' لكنْ حين مدّ المحامي يده وانتزع ألف دينار أخرى لقاء أتعابه الجديدة، أدركتْ الوالدة (في غمْرة الإغماء)، وأدرك الوالد، وأدرك الإخوة الثلاثة، وأدركت الأخت الكبرى المطلّقة ذات السبعة والعشرين خريفا أسودا، وأدركتْ كذلك الجدّة المتعوّذة بالله من الشّيطان الرّجيم، وأدركتُ أيضا أنا أنّ المحامي إستغلالي، وأنّ النائب العام شريكه في الاستغلال، وأنّ الحكاية وما فيها لعبة أدوار، وأنّ الثاني يطلب الاستئناف، والأوّل يطلب المزيد من المال· فإذا ما تمّ الأمر، إحتسى الشريكان القهوة عند أقرب مقهى للمحكمة· عدَلَ الشرطيُ الآلة الرّاقنة· رفع رأسه ينظر إلى ساعة الحائط قبالته· - هيهْ! ماذا كنت تقول؟ - قلتُ أنّه ذُكر ها هنا، في قانون العقوبات وفي الملحق المتعلّق بالوقاية من الفساد ومكافحته، في المادة كذا، وكذا··· بناءً على هذا، أرفع دعوى ضدّ المحامي ''فلان''، وكيلنا في القضيّة رقم كذا، وشريكه النائب العام، بالتهمة السالفة الذّكر· إحتسى الشرطي قهوةً باردة· مصّها مصّاً وقال: ''عدْ غدا· عدْ غدا صباحا، سننظر في الأمر''·