كراف الخطايا، الجزء الثانيعلامات أوّلية: 2008''5''14 بسم الله الرحمن الرحيم إلى الأخ المحترم الأديب الفاضل سعيد بوطاجين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته· أمّا بعد: أرجو أخي الكريم أن تتكرّم بقراءة هذه الرواية، قراءة ناقد وقراءة قارئ عادي··· وأكون مسرورا أكثر، لو تتكرم بكتابة مقدمة لها، فقد نحتاج إليها يوم تتيسر سبل نشرها· ويا حبذا أن تضع خطوطا حمراء تحت الأفكار والمواضيع التي يجب أن تلطف وتصاغ من جديد· مع جزيل شكري الشاعر عبد الله عيسى لحيلح· علامات على علامات: عندما اقترح عليّ الدكتور عبد الله عيسى لحيلح تقديم ''كرّاف الخطايا'' وجدت نفسي كمن يريد تسلق جبل من البلاغة· قرأت المخطوط وأعدت قراءته، بدا لي أنه محرف لغوي حقيقي، كذاك الذي أربك الكاتب الروسي دوستويفسكي عندما أحسّ بفقره الشديد إلى الكلمات الكفيلة باحتواء المعاني المتشظية · كنت أفكر وقتها في التخلي عن الكتابة النقدية في الجزائر إلى أجل غير مسمّى، وذلك بعد إتمام مشروع بدأته قبل أعوام، لقد ذبل النقد وفقد معناه ووظيفته في هذا الصخب العظيم الذي يسم بنيتنا المعرفية قاطبة، وإنّه ليتعذر الآن رأب الصدع بالاتكاء على النماذج الأكاديمية، بصفائها وبقدراتها التمييزية التي تقدّم قبسا للكتابة السردية التي غدت مكتفية بذاتها، بغثها وسمينها، وبقضها وقضيضها· لم يفاجئني تواضع الشاعر لأنّه قامة، ومن عادة القامات أن تبقى لصيقة بتربتها، ولا تطل على الدنيا إلاّ بخجل المتصوفة الذين لا يعرفون سوى البدايات، أما الحقائق والنهايات فلها آلهتها· هاتفتُ الكاتب وهاتفني مرّات· قدّمت له ملاحظاتي كقارئ، لا غير: المواقف، القضايا السردية، وما رأيته قابلا للإضمار· لكني لم أضع تقديما لأني أعتبر الشاعر فوق تقديمي، وكان ذلك سبب امتناعي، الأول والأخير، مع أني تحفظت على مسائل تقنية تأسيسا على ذوقي وقراءاتي السيميائية والسردية· كرّاف البلاغة: أوّل شيء يشدُّ القارئ، من أول صفحة، هو هذا التنويع المركّب الذي ينمُّ عن تنقيب جاد في الحقل اللغوي، مع استثمارات متباينة للمنقول الذي يعدّ أحد المراجع القاعدية للفعل السردي برمّته· ثمّة زاد معتبر من المفردات الجديدة - القديمة أسهم في إثراء الجملة وتقوية الدلالة· ما جعل الأفكار تتوالد في شكل موصول بالناحية البلاغية كغاية، لأن الأفكار قادمة منها وآيلة إليها، تلك غواية عبد الله عيسى لحيلح، بداية من أشعاره إلى ''كراف الخطايا''، مرورا برواية ''حالات'' التي كانت حالة بلاغية حقيقية، وصولا إلى الجزء الثاني من ''كراف الخطايا''· لا يمكن أن تمرّ بك جملة دون أن تلاحظ هذه القدرة الخارقة على تمثل الكلمة التي تنبثق من مصادر متعددة تحيل على ثنائية التأصيل والتجاوز، وهي إحدى العلامات التي تسم الرواية· الكاتب أمام وظيفتين: التنقيب كخطوة أولى، ثم الاجتهاد في كيفيات الاستعمال، تفاديا لفصل المعجم عن وجوده العيني، أي عن وظيفته السياقية الراهنة· تبدو استفادة الروائي من القرآن والحديث والشعر والأسطورة والخرافة استفادة عارفة، هناك الفنان ورجل البلاغة اللذان يشتغلان جنبا إلى جنب· لا توجد حالات صنمية تحيل على المقابسة لذاتها، بل إن أغلب ما نقل من الموروث، بشكل، أو بآخر، إنما نقل لغايات سردية مخصوصة تشترط مستويات معجمية وتعبيرية لها مسوّغاتها النصية، وقد تم التحكم فيه بروية· ''كراف الخطايا'' هي بحث لغوي موسوعي ومتخصص، وهي في الوقت ذاته، عمل روائي مزدحم بالدين والفلسفة والتصوف والثقافات والنحت والرسم والفكر والتاريخ، ما يعني أننا أمام جهد مؤثث بزاد معرفي، يغدو، في حالات كثيرة موضوعا مستقلا بذاته· كتب عبد الله عيسى لحيلح عملا ثقافيا ضخما يخرج المتلقي من النص إلى العتبات، إلى التاريخ وإلى الخطاب غير اللغوي، وأعتقد أنه يتعذر على القارئ فك شفراته دون امتلاك الثقافة الكافية لذلك، من حيث أنه يصرّح ويضمر ويحيل ويرمز· إن شخصية ''منصور'' هي شيء من هذا الأثاث، وليست بالضرورة كائنا حيا أو كائنا من ورق، قد تكون وعاء لهذه الثقافة ولهذه الرؤى التي لا تستقر، من حيث أنها تمثل الشيء ونقيضه، الإثبات والنفي في آن واحد· والحال أن هذه الشخصية تشبه ملحمة تجمع بين الحاضر والماضي، بين الوهم والحقيقة، بين الجهل والمعرفة، بين السذاجة والذكاء، لكننا لا يمكن أن نحصرها في خانة ما، وفي أيديولوجية واضحة المعالم، أو في ثقافة ما، أو في إي شكل معياري محدّد محدود· إنها هذا وذاك، هنا وهناك، حداثية وتقليدية، مؤمنة وكافرة، واقعية وخيالية، حيّة وميّتة، كما يحيل على ذلك هذا الملفوظ الوارد على لسان منصور:''على أيّ حبل أعلّق هزائمي أنا؟! لا فرق بيني وبين زوجها سوى أنه جثة في وضع أفقي وأنا جثة في وضع عمودي''· ربّما كان هذا الموقف أحد المنطلقات النووية للرواية قاطبة، إحساس ناتج عن التجربة وعن المواضعات اللغوية التي لا تفي بالغرض عندما يتجاوز الإحساس دلالات العلامات الاعتباطية القائمة، ويكون السرد في مواجهة المعجم المعياري المتفق عليه من حيث الوضع والاستثمار المكرّس· المؤكد أن حالة ''منصور'' المتأزمة، التي لا تكفيها اللغة، هي أحد دوافع البحث عن ألفاظ أخرى، عن أشكال تعبيرية مؤهلة لاحتواء الشعور، التشظي العام، حالة القلق والجنون· لقد وصل ''منصور'' إلى الشك الأعظم، إلى ذلك الخراب الهائل الذي يفتت كلّ شيء· كلّ شيء متعفن، كل كلمة وراءها كلمات ومضمرات، كلّ واقع تجربة هلامية، المأموم، المسؤول، العسكري، المثقف، الجاهل، لقد استوت المفردات والدلالات والمرجعيات· إننا في اللامعنى، في مرحلة سديمية لا أوّل لها ولا آخر، ما يفرض، بالضرورة، البحث عن صيّغ للتخاطب من حيث أن الصيغ المتواترة أصبحت رثاثا· ''لقد صرنا جميعا مهرّجين···وكثيرا ما ننسى الوجوه في فوضى الأقنعة، فعندما نرى وجوهنا في المرايا نضحك عليها··طبعا من وراء الأقنعة! ··· لم يعد لي أخ أو حبيب، سوى بعض الذكريات المثقوبة كأحذية المفاليس، أو جيب مثقوب، لا يصلح لحفظ النقود، وبالكاد يطيق مقص الأظافر''· يتحرّك ''منصور'' كدال بلا مدلول، في حيز غامض صنعته حرب أهلية كان وراءها ناس ''أشرار''، كلهم أشرار، وكان الشر بلباس الملاك والشيطان، بقناع المسؤول واللص والقاتل والبريء والطيب· تغير كل شيء، العلامات، الناس، القيم، الأخلاق، الكلمات، وهكذا أصبح ''منصور'' شيئا ما، في قرية ما، في وقت ما، في كوكب ما، حلاّجا تارة ومجنونا أحيانا، ''مجاهدا'' و''مخبرا''، حاضرا وغائبا، يعرف ولا يعرف، متهما وبريئا، يخاف من كل الناس، وكل الناس يخافونه، ماعدا عمّي صالح والحذاء والكلب وإبليس· منصور - عمّي صالح: أعتقد أن علينا قراءة الرواية لفهم هذه العلاقة التي تجاورت حدود التفكير السريالي، هناك اجتماع غريب للموجب والسالب، ودون أن نعرف من يمثل هذا ومن يمثل ذاك، ثمّة بناء لم يحدث لي أن وجدته في رواية أخرى، ما عدا ''كرّاف الخطايا''· أما كيف ربط الروائي بين شخصيتين متميزتين، وخلق بينهما تلك الألفة الملحمية فتلك مسألة تحتاج إلى دراسة مستقلة تهتم بهذين النموذجين الغريبين اللذين أعدّهما شيئا استثنائيا في السرديات الجزائرية، دون مبالغة· وقد كانت وفاة ''عمّي صالح'' أمرا مثيرا، ومازلت أتصور أن موته هو موت الحكاية والسرد معا، لأن انسحابه من الرواية، في ذلك الوقت بالذات، سيجعل الصفحات المتبقية باهتة، وستنكسر كل الدلالات اللاحقة، رغم أن موته كان ضروريا للكشف عن الجوانب العبثية الأخرى لوجود مظلم· مع أن القارئ سيصدم بهذا الرّحيل الذي سيفتح نوافذ أخرى على عالم لا يستحق الحياة، لكنه سيضطهد المتلقّي الذي سيرافق ''منصور'' في وحدته الأخرى، وفي السير في اللاجدوى نحو اللاجدوى· ولأني أعتبر هذا البناء خارقا، فإني أعود إليه مؤسسا على مقاربات أخرى قد تضيء الجانب المأساوي فيه، مع أني متأكد من أن العفوية لعبت دورها في ذلك، لقد خلق الروائي شخصيتين هلاميتين، ثم خلق العفوية وقسّمها بينهما، لكنها عفوية ملغمة، على شاكلة ما كان يفعله تشيكوف بأبطاله· منصور- إبليس - الكلب: تبدو هذه العلاقة ساخرة في مظهرها، لكنها مأساوية إلى حدّ كبير، منطقية وضرورية وشاعرية في واقع فقد ملامحه وغدا شيطانا ضد الشيطان وكلبا ضد الكلاب، أما الشيطان فأقل شيطنة وأكثر حكمة، ويجب تصديقه عندما يتكلم مع ''منصور'' أو ينتقده، ''من مجموع أحزابكم يا قبيح، وما أظنني أكشف سرا إذا قلت لك إن أحزابكم مجرّد أحزاب فرعية في حزبنا، وإن أغلب مناضليكم هم عملاء لنا·····أما ترى مناضليكم كيف انتفخوا بطونا وأردافا مما نقدمه إليهم من علف؟!······'' شخصية إبليس هي متكأ للسارد لولوج العوالم الحقيقية لشخصيات تتحرك بالظاهر في الظاهر، وقد كانت سندا في سياقات وظيفية من حيث أنها تقرأ الحقيقة بلغة أخرى ومن تموقع مختلف، غير التموقع المعياري الذي يتم التأسيس عليه لتوليد الصفات والبطاقات الدلالية المعروفة· أما الكلب فهو صديق ''منصور'' وعائلته وجمهوره، وحده يستطيع الإصغاء، يكتم الأسرار ولا يحتج، يسمع ولا يعلق، كلب إنساني يؤهلنا إلى الاقتراب من ''منصور''، انطلاقا من المسارّة، أو المساورة التي تأتي مجزأة لإضاءة الشخصية تدريجيا عن طريق تلميحات تسهم مجتمعه في تكوين فكرة عن منصور، ولو أن هذه الشخصية ستظل غامضة ومعتمة، شخصية لا تكتمل أبدا· يقول للكلب:''أيّ تصوّف يستطيع اغتصاب جرحي المورق المونق بكلمات قزحية، ويحدّدني بلا ''أين؟'' ويشير إليّ بلا ''هذا وذاك''، ولا بطرق سبابته الذي نصلها هو ''هو''!''· ما لا يقوله ''منصور'' للآخر يبوح به للكلب، لقد اختصر العالم والعلاقات بطريقته، ليس الإنسان إنسانا وليس الكلب كلبا، لا الحزب حزب ولا المكان مكان ولا الألفاظ ألفاظ ولا الموضوعات موضوعات ولا الحقائق حقائق· كل شيء وهم· يبدو أن الكلب فهم هذا الخطاب الذي أراد الكاتب تمريره، أما أنا فلم أفهم جيدا، لذا سأعود إلى الرواية لاحقا، وأعتبر هذه الكلمات مجرّد تقديم، لكنه مبتور، لأن رواية بهذا الحجم تستحق قراءات متخصصة تتناول فلسفتها السردية ولغتها وشخصياتها وبناها بشكل أكثر احترافية، لكنني بحاجة ماسة إلى مجموعة من الكلاب لمساعدتي·