سأحدثكم اليوم عن صديق تعرفونه ولا تعرفونه، تقرأونه ولا تقرأونه·· فهو كالحقيقة يعرفها الجميع ويهرب منها الجميع· واستأذنكم في الحديث من ما قبل البداية· في مطلع خمسينيات القرن الماضي كنت في المدرسة الابتدائية بعمان عاصمة الأردن، وهي مدرسة خاصة جدا، فلم يكن عدد طلبتها أكثر من 50 طلبا جمعونا من الطلبة الأوائل في كل الأردن تقريبا وأخضعونا لامتحانات وتصفيات وأخذوا الخمسين الأوائل من هؤلاء الطلبة ليعدوننا لتسلم القيادات في الأردن في نظام داخلي مبرمج طوال النهار·· وكان الصف (القسم) لا يحتوي على أكثر من 10 طلاب، وكان المعلم الذي لم يحضر درسه جيدا يجد نفسه في ورطة مع أطفال ذكاؤهم أكبر من أعمارهم·· حدث أن توفي أحد هؤلاء الزملاء الأطفال، فاختاروا بضعة، كنت أحدهم، لتشارك في تشييع الطفل الزميل، واسمه هايل، في قريته ماعين قرب بلدة مادبا·· ويبدو أن مشاركة الأطفال تلك كانت مبرمجه·· ففي تلك البلدة ثقافة مكان كاملة·· فهذه هي جبال مؤاب، ومن هنا أطل سيدنا موسى كما نطل الآن على فلسطين وشاهد أريحا وأرسل بعض أتباعه ليخبروه عن قومها الجبارين وهنا ضرب عصاه فانشق الصخر ماءا فكانت حمامات ماعين هذه التي نحن عندها· في أواخر عام 1954 انطلقت مظاهرة في الأردن الذي يحكمه فعليا الجنرال الإنجليزي جون باحت كلوب (كلوب باشا)، المهتم شخصيا بتلك المدرسة، ولست أدري كيف قادتني قدماي إلى تلك المظاهرة التي هتفت ضد الإنجليز وضد الجنرال· والجديد أنها هتفت ضد فرنسا مع ثورة الجزائر التي كانت أخبارها قد جاءت من إذاعة صوت العرب التي تلتصق آذان الناس بها سرا خوفا من جلاوزة الجنرال الإنجليزي·· جاءت قوات الأمن·· فهرب من هرب·· وكنت من بين الهاربين، واعتقل من اعتقل، وكان من بينهم الطالب غالب هلسا ابن ماعين التي تفجرت صخورها لموسى عن ماء معين· وطوت السنون أيامها ولم أعد أذكر تلك التظاهرة ولا ماعين التي ولد فيها غالب هلسا في 28 ديسمبر ,1932 ولم أكن أعرف أن هذا الطالب كان قادما لتوه من بيروت التي أبعد إليها في وقت سابق فسجل في الجامعة الأمريكية لدراسة الصحافة·· وبعد هذه المظاهرة أبعدوه إلى بغداد حيث نوري السعيد· وفي عام 1956 شارك هذا الطالب في مظاهرة ضد نظام الحكم الملكي في العراق الذي سمح للطائرات البريطانية باستعمال قاعدة الحبانية قرب بغداد لضرب بورسعيد خلال العدوان البريطاني الفرنسي الإسرائيلي الشهير، فابعد مجددا إلى مصر التي تظاهر من أجلها· وحتى عام 1977 لم أكن أعرف عن غالب هلسا سوى قراءتي عنه في هذه المجلة أو تلك الجريدة، سوى بعض كتبه ومنها روايته الضحك التي تحدث فيها عن بغداد تلك الفترة وبعض كتبه وترجماته··· لم أكن أتوقع في ذلك العام الخطير في تاريخ العرب أن أكون مع جملة من الكتاب والأدباء العراقيين والعرب الذين يرحبون بقدوم غالب هلسا الذي طرده إليها من جديد الرئيس المصري أنور السادات، بعد حادثة الزيارة المشهورة، هو وعدد من الكتاب الفلسطينيين والعرب كان من بينهم الشاعر مريد البرغوثي والروائي أحمد عمر شاهين وآخرون· وكان غالب قد تجرأ وأقام ندوة عن خطر الوجود الأمريكي في البلاد العربية·· وهي النبوءة التي نكتوي بنيران حدوثها اليوم· أكرمت بغداد وفادة غالب هلسا وفتحت له صحفها وإذاعاتها·· وأعطته سكنا لائقا ووظيفة لائقة·· وظللت ألتقي به وأجريت معه عدة أحاديث صحفية أدبية كنت أنشرها في الصحف الخليجية ومنها جريدة الرأي العام الكويتية التي كنت أراسلها من بغداد قبل أن التحق متفرغا فيها عام .1979 وظل غالب يحدثني عن الأردن خاصة حين علم أمر تمردي على تلك المدرسة والبرمجة التي أعدت لتلامذتها·· رغم ما فيها من مغريات ومستقبل مضمون، فحدثني كيف أنه درس في مدرسة المطران في عمان بالأردن وكان زميله على المقعد التلميذ الحسين بن طلال الذي صار ملكا·· وحدثني عن العروض التي لاحقته حتى القاهرة ليكون وزيرا للإعلام أو وزيرا للثقافة في الأردن، ولكنه رفض مجرد التفكير في العودة إلى عمان·· رغم ثراء عائلته وقدرتها على أن تحميه ماليا وعشائريا·· وصمم أن يظل صحافيا مراسلا لوكالتي أنباء ألمانيا (الشرقية) والصين، وعلى المستوى الحزبي انتقل إلى الحزب الشيوعي المصري قادما إليه من الحزب الشيوعي العراقي الذي أتاه من الحزب الشيوعي الأردني· لكن في العراق حدث ما عكّر مزاجه·· فقد اكتشف أن للنظام وجها آخر· يتلخص الحادث في أن غالب هلسا كان مدعوا لمؤتمر اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين الذي عقد أواخر السبعينيات في تونس·· وفي العودة أو قفه شرطي المطار ولم يسمح له بدخول بغداد باعتبار أنه ممنوع من دخولها منذ عام 1956 ولم تنفع 20 سنة مضت لشطب ذلك المنع، ولم تشفع وقائع أنه مقيم منذ سنتين في بغداد كلاجئ سياسي و··· و··· فهذه هي الأنظمة العربية كل شيء فيها يمكن أن يتغير إلا القمع وسجلاته وملفاته فهي في مكان أمين لا تطاله إنقلابات أوثورات، ولا تغيره سياسات، هو البدر وكل شيء حوله كواكب، هو الباقي وهم الزائلون، هو الثابت وهم المتغيرون··· ومضت 17 ساعة وغالب هلسا في مطار بغداد الشهير لا طعام ولا ماء ولا سجاير ·· إلى أن تمكن من الإتصال بالإعلامي ناصيف عواد وبالوزير طارق عزيز·· فدخل بغداد من جديد·· لكن شيئا ما كسر في داخله، فبدأ بكتابة روايته ''ثلاثة وجوه لبغداد''· ويبدو أن أحدهم كشف مسودات هذه الرواية، فكان أن طردوه هذه المرة من بغداد، ولكنه لم يسجن كما سجن مرارا في مصر وقبلها في الأردن وإلا لكانت رواية بعنوان عدة وجوه لسجن عربي واحد· التحق غالب بالمقاومة الفلسطينية في بيروت، حيث أصدقاؤه المناضلين مثل غطاس صويص ( نزيه أبو نضال) ومنير شفيق وغيرهم كثير··· ومع الإجتياح الإسرائيلي لبيروت وخروج المقاومة الفلسطينية عام1982 التحق بعدن عاصمة جنوب اليمن ثم أثيوبيا فبرلين· إلى أن حط به طائر الأقدار في دمشق· ارتاح في دمشق فعلا واكترى شقة في حي العباسيين، يخدمه فيها خادم أو خادمة، فقد أضرب غالب عن الزواج حتى النفس الأخير· وقد ملأ عليه تلك الشقة الأدباء السوريون والفلسطينيون والعراقيون والعرب·· لقد كانت شقته في حالة ازدحام دائم·· وكنت أعجب كيف يجد وقتا للكتابة·· وكنا كثيرا ما نقوم في نهارات الشام الحنونة بجولة يطلبها مني في أزقة دمشق القديمة·· فغالب مسكون بثقافة المكان وبالحضارة العربية الإسلامية وهما أمران لم يلاحظهما الكثير من نقاده·· فهنا كان معاوية·· وهنا كان الوليد·· وهنا ضرار بن الأزور ومن هنا دخل خالد بن الوليد ومن هنا خرج هرقل·· وهنا كان يسكن الأمير عبد القادر··· لقد كانت ثقافة المكان مسيطرة على غالب هلسا، فإذا كان قد كتب عن بغداد روايتين فإنه كتب عن ماعين والكرك روايته ''سلطانة'' مجموعة قصصه ''زنوج وبدو وفلاحون''· أما طفولته المسيحية البدوية في تلك المنطقة، فقد كتبها في روايته (''وديع والقديسة ميلادة''· ولم يتوقف غالب هلسا عند الرواية والقصة، فهو واحد من أذكى الذين قرأوا التراث· ولعل ليس من يفوقه في قراءة التراث من المفكرين العرب سوى محمد عابد الجابري، فهو الذي جمع أشتات فكر الفيلسوف العربي ابن النظام من مختلف كتب التراث وناقشها في كتابه ''العالم مادة وحركة''، حيث توقف طويلا عند قول ابن النظام في ذلك الزمن البعيد: العالم نقلتان، ثبات وانتقال· وناقش غالب الفكر الجبري وناقش ابن المقفع وناقش ابن حنبل، وكان معجبا جدا بالفكر الإسلامي وبالحضارة الإسلامية، ولم يسلم كما بعض المفكرين اليوم بأنها نسخة معدلة عن الفكر اليوناني، بل كان يعتقد بأصالة الفلسفة الإسلامية وبجديتها وبأنها أضافت جديدا إلى العقل البشري ومما كان يقوله: إن الفلسفة العربية الإسلامية، من القمم الفلسفية الإنسانية وأن الفكر الإسلامي، قد استجاب للتغيير الاجتماعي، فأحدث تحولات عميقة في العقل البشري وأعطاه مرونة في المكان ومرونة في الزمان لم تكن موجودة في الفكر البشري قبل الإسلام، ولعل أبا حنيفة، هو خير من عبّر عن هذا الفكر حين قال: الضرورات تبيح المحظورات·· فتغلبني النكتة فأقول له لماذا لا تعلن أنك حنفي كاثوليك؟؟ وغالب هلسا في الفكر محدودات بلا حدود يناقش كل الفلسفات والأفكار·· فقد تعلمت منه في دمشق شيئا كثيرا عن نسخ التوراتات المختلفة ولماذا وكيف وعن صورة سيدنا موسى فيها وفي كتب التاريخ المختلفة من يونان ورومان وبيزنطيين·· وكثيرا ما كان يرشدني إلى قراءة كتاب بعينه أو يحضره لي من مكتبته· كنت أعتقد أن شخصية فكرية مثل غالب هلسا طاردته الدول وشردته الأجهزة وتقاذفته المطارات وأكلت حقوقه دور النشر·· وقرأه كل الناس إلا أهله في الأردن الذي ظلت كتبه ممنوعة فيه طوال حياته·· إنه سيحقد على كل الناس لكن غالب كان يحمل بين منكبيه العريضين صدرا حنونا يتسع للبشرية كلها·· لم يكن هناك شيء خارج اهتماماته ولم يكن هناك بشر خارج محبته·· وقبل أن يتوفى بأسابيع سمع من بين ما سمع، ضمن اهتماماته العلمية والفلكية، إن الشمس ستلتهب بعد ثلاثة بلايين سنة وتنتهي الكرة الأرضية ويندثر الإنسان، فأصيب باكتئاب شديد، وأخذ ينام طوال أربع عشرة ساعة يوميا وهمدت حركة هذا الجسد الذي لم تستوعبه دولة ولم توقفه حدود·· إلى أن نقل فجأة إلى المشقي، فتوفي في ذات التاريخ الذي ولد فيه قبل سبعة وخمسين سنة، حيث توفي في 28/12/.1989 اعتقدت بعض الجهات الفلسطينية والمثقفون العرب أن النظام في الأردن لن يسمح بدخول جثمان غالب هلسا، فرافقوه في تظاهرة كبيرة جدا للضغط على المسؤولين الأردنيين لإدخال الجثمان، لكنهم وجدوا عند بلدة الرمثا الحدودية مندوبا من الملك حسين الذي كان جار غالب في المقعد في مدرسة المطران بعمان الذي كان غالب يرفض أن يستوزر له، واستقبل الجثمان مع إثنين من خاصة غالب، ودفن في بلدنه ماعين· وعلى الفور نبهت أحد رفاق دربه إلى مقتنياته ومكتبه في دمشق· فاكتشفت أني أشرت إلى مشكلة يطول حلها أو يصعب··· لكن الدنيا تدور، فغالب هلسا الذي كانت إذاعة مونت كارلو أول من نعتته وتبعتها كثير من الإذاعات العربية حتى تلك التي خاصمته دهرا·· صار ملكا للتاريخ·· فأعيدت طباعة كتبه مرارا في الوقت الذي عزف فيه الشباب عن القراءة·· وعلمت في الأيام الأخيرة أنهم يسعون لتحويل بيته في عمان إلى متحف ينقلون إليه بعض مقتنيات بيته وكتبه في دمشق·· أما مكتبته ومتعلقاته في بغداد والقاهرةوبيروت وبرلين فربما تحتاج إلى دورة تاريخ جديدة ليتم جمعها· أكيد، إن الله سيرحمك يا غالب، يا آخر أنبياء العرب المشردين، لكني لا أظنه يرحم أمة تشرد أنبياءها·