إحدى الخصوصيّات، المتعارف عليها، في المجتمعات الترفية، أنها ذات صبغة أموسية أين تتحكم المرأة في دفة تسيير الشؤون العامة، التنشئة وتوفير المستلزمات الحيويّة، وكذا تنشيط الحفلات العائلية، الغناء والعزف على الآلات التقليدية، وهي خصوصية شذ عنها البعض وفضل التمرد على القيم المتوارثة، مشرعا تجربة فنية، تقودها أسماء رجالية، صارت تصنع اليوم حضورا مميزا، محليا وعالميا، على غرار الفنان عثمان بالي، الذي مرّت، قبل ثلاث أشهر، ذكرى وفاته الخامسة، والذي خلفه على رأس فرقته نجله نبيل، إضافة إلى فرقة ''تينريوان''، القادمة من أعماق الصحراء، والتي جابت القارات الخمس، ووضعت الموسيقى الترفية على سكّة العالمية. على خطى موسيقى الفناوي، التي حملها صبر فئة العبيد في منطقة إفريقيا الغربية، وكذا موسيقى ''أهليل'' التي برزت و تطورت تحت ظروف صعبة، قبل أن يتم إدراجها ضمن التراث العالمي اللامادي، تسير الموسيقى الترفية صوب نحت مكانة لها وسط ما يصطلح على تسميته ''موسيقى العالم''، من خلال خصوصا التمازج مع أنماط موسيقية غربية، مع الحفاظ دائما على صلة الوصل مع الخصوصية المحلية، وهو الرهان الذي دافعته عليه فرقة تينريوان (تأسست عام 1982) التي استطاعت أن تكتسب خصوصية موسيقية يطلق علها تسمية ''بلوز الصحراء''. تزامن بروز فرقة تينريوان (بمعنى الصحاري باللغة الترفية) مع بداية العدّ التنازلي لإنتفاضة القبائل الترفية، شمالي المالي، منتصف الثمانينات، على النظام الحاكم، والمطالبة بمنحهم الحقوق المدنية نفسها التي يتمتع بها سكان الجنوب، ونظرائهم في العاصمة باماكو، مما قادها إلى انتهاج خطاب يحمل نبرة سياسية، تهدف، بالأساس، إلى دعم فصائل الانتفاضة، وتبليغ رسائل دعم وأمل وتضامن مع أبناء جلدتهم على جبهة المقاومة، والدعوة إلى لمّ شمل أفراد القبائل الترفية، المشتتة بين صحاري الجزائر، ليبيا، موريتانيا، مالي والنيجر، مع العلم أن بعضا من عناصر الفرقة نفسها شارك في المواجهات المسلحة، مواصلين، في الوقت نفسه، الاشتغال الفني، إلى غاية التوقيع على معاهدة السلام، مطلع التسعينات، التي استجابت من خلالها الحكومة المالية لمطالب التوراف، مما منح فرقة تينريوان فرصة التفرغ للعمل الفني، متمسكة بإحدى الميزات، التي تعتبر تحديثا في مسار الأغنية الترفية، المتمثلة في توظيف الفيتارة، حيث يعتقد ''عبد الله'' (مغني وعازف وأحد مؤسسي الفرقة) أن سرّ نجاح تينريوان نابع من قدرتها على صهر أنماط غربية في قالب محلي، حيث يميل إلى تعريف موسيقاه بعبارة ''آسوف'' وهي كلمة محلية تعني ''الوحدة'' أو ''الحنين'' ولكنها أيضا تشير إلى طابع موسيقي أين يتمازج البلوز والروك والموسيقى المحلية. غالبا ما يتم حصر مسار تينيريوان في دورها أثناء انتفاضة التوارف ، ويعتقد البعض أن سرّ نجاح الفرقة ذاتها نابع من دورها السياسي، في المنطقة، وذلك ما ينفيه أعضاءها، حيث يعتقد عبد الله أن نجاح الفرقة وبدايات بلوغها العالمية لم يتأتى سوى مع مطلع الألفية الجديدة، أي حوالي العشرون سنة بعد تأسيسها، خصوصا مع ألبوم ''أماساكول'' (المسافر - 2004) والذي تضمن الأغنية الشهيرة ''أماساكول أن تينيري'' (مسافر في الصحراء)، مانحا الفرقة، العام نفسه، فرصة القيام، لأول مرّة، بجولة فنية عبر الولاياتالمتحدة الأمريكية· تلاه ألبوم ''أمان إيمان'' (الماء هو الحياة ? 2007) والذي تضمن الأغنية الرومانسية ''كلير أشيل'' (قضيت اليوم في···)، التي تتغنى بامرأة تدعى ''ميلا''، وأخيرا ألبوم ''إيميدوان'' (الصحابة -2009) أين أدرج عبد الله أغنية تجريبية من خلال تسجيل أنغام القيتارة في مواجهة الريح، في انتظار الألبوم الجديد الذي كشف عنه سعيد آغ أياد، المنتظر صدوره قبل نهاية السنة الجارية· إحدى الميزات الأخرى التي تصنع شهرة تينريوان تتمثل في تمسكها ببيئتها، القاسية جدا، على أطراف الصحراء، وإصرارها على تسجيل جميع ألبومتها، في الصحراء، متنقلين من تمنراست إلى باماكو، متجاهلين عروض مختلف شركات التسجيل الفرنسية، التي تكتفي بمهمة التوزيع، وفي أحسن الحالات الميكساج، وبرمجة الحفلات، عبر مختلف بقاع العالم· فالفرقة التي صار اسمها متداولا، بكثرة، خلال السنوات، و التي سجلت حضورها، مؤخرا، في افتتاح كاس العالم بجنوب إفريقيا، انتظرت طويلا قبل أن تبلغ هدفها، كما عانت الأمرين، مثلها مثل الراحل عثمان بالي (1953-2005) الذي يعتبر واحد من أهم أسماء الأغنية الترفية، والذي يحفظ الكثيرون أشهر أغانيه، خصوصا منها ''أمين'' و''دمعة'' التي يقول فيها: ''دمعة من القلب للعين··سالت على الخدين··نقشت على الوجه خطين···غيّرت سواد العين··أصبح للحبيب قلبين··وجهه رجع وجهين··تغيّر الحال صفين··وتبدل الحال حالين··انقسم قلبي نصفين··نار وجمر لهبين''· عثمان بالي (اسمه الحقيقي مبارك عثماني) يختلف عن تينيريوان من منطلق ميله إلى المزج في كلمات أغانيه بين الترفية و العربية أيضا. على خلاف تينيريوان فإن بالي لم يتغلب على السطوة الاموسية، في الأوساط الترقية، حيث بقيت ترافقه عبر مختلف مراحله الفنية أمه و أخته اللتان كانتا تشكلان جزءا من الفرقة التي جابت مختلف عواصم العالم، من باريس إلى طوكيو، ومن كاراكاس إلى برلين، وعرّفت بالأغنية والآلات الترفية، خصوصا منها آلات ''الإمزاد'' والتيندي''· وتعود أولى البومات بالي إلى عام ,1986 قام بتسجيله في الجزائر العاصمة، ولكنه لم يلقى الرواج المطلوب، وانتظر قرابة العشر سنوات قبل أن يكتسب المشروعية والاهتمام الفني، حيث ساعده في مواصلة الطريق الفنان الأمريكي ستيف شيان، الذي اشتغل معه أكثر من خمس سنوات، وهو اسم فني مهم اشتهر بعمله إلى جانب عدد من المغنين، من بينهم بوب ديلان وساليف كايتا. رغم رحيل الفنان عثمان بالي، الذي لقي حتفه على اثر فيضان وادي جانت (جنوبي شرقي الجزائر)، في أوج عطائه، دون أن يكمل عمله الثنائي مع الفنان الفرنسي جون مارك بادوفاني، تاركا حلفه إرثا يقدر بحوالي 1200 أغنية، يواصل ابنه نبيل (26 سنة) اليوم الطريق مؤكدا على مدى تأصل و تجذر الموسيقى، في الأوساط الترفية، التي صارت تفرض صوتا مميزا وعلامة فارقة على الواجهة الفنية.